ذكريات لا تنسى

 
 
 

لا أدري لماذا بكيت

 
 
 

فجأةً.. حدث بين الركّاب هَيَجان عجيب. القطار يخترق الصحراء، ويمضي مُسرِعاً إلى الإمام، ولم يَقِرّ للركّاب قرار. لقد بَدَت القبّة الذهبية ومنارات حَرَم الإمام الرضا عليه السّلام ـ مأوى غُرَباء العالم ـ تتلألأ تحت أشعة الشمس، وانشدّت إليها عيون المسافرين الدامعة. القلوب المشتاقة التي كانت تنتظر الوصول أخذت تَخفِق، والأرواح الهائجة تكاد تطير. كانت الصلوات على محمّد وآل محمّد تنطلق من أفواه المسافرين المتعَبين بين الوقت والآخَر، وأنظارهم جميعاً متّجهة إلى اتجاه واحد.

بعد 16 ساعة من الانتظار وتَطلُّع العيون طيلة الطريق.. بدأ القطار يقلّل من سرعته بالتدريج. وبانطلاق صوت بوق ممتدّ أعلن القطار عن الوصول إلى محطة سكّة حديد خراسان.

كان عمري 8 سنوات. كنت واقفاً إلى جنب زجاجة إحدى نوافذ القطار لا أتحرّك، وأنا أنظر إلى المسافرين المشتاقين وهم يستعدّون للنزول. قبل هذه السفرة كنت قد رأيت عدّة مرات وصول القطار إلى المحطة الأخيرة في سفراتي مع أهلي إلى الأهواز في الجنوب.. لكنّ هذا الشوق والإيمان الذي أراه الآن عند وصولنا إلى مشهد هو شيء جديد علَيّ.

هذه هي المرة الأولى التي أسافر فيها إلى مشهد مستثمراً أيّام العطلة الربيعية، وها أنا أرى لأول مرة هذه المدينة التي كنت أتمنّى زيارتها من قبل.

ما زلتُ أُفكّر في المنظر الجذّاب الذي شاهدتُه قبل ساعات: كان الجوّ مظلماً، ولا تُسمَع أصوات من داخل القطار، كلٌّ من المسافرين كان مستلقياً في مكانه، وما هناك إلاّ الصوت الرتيب لاحتكاك عربات القطار ببعضها عند نقطة اتصالها. ولم يكن هذا الصوت مُزعجاً للمسافرين المتعَبين، فانّهم أشدّ تَعَباً من أن يمنع هذا الصوت نومَهم.

في مسافات معيّنة.. كان القطار يتوقف فترة قصيرة في المحطات الصغيرة، ثمّ يُجدِّد مسيره بعد عدّة دقائق. في إحدى المحطات لمّا توقف القطار ـ خلال الظلام ـ ارتفعت أصوات متفرقة في الممرّ إلى جانب غُرف المسافرين: صلاة. هذا وقت الصلاة. أسرعوا. ليس لدينا وقت. صلاة صلاة.

المسافرون المتعَبون المستغرقون في نوم عميق.. نهضوا بسرعة بدون اعتراض على مَن قَطَعَ عليهم النوم اللذيذ. شَمَّر كلّ منهم عن ذراعيه، ومضى سريعاً ينزل من القطار. وما هي إلاّ دقيقة واحدة.. حتّى كان عدد كبير من المسافرين قد تجمّعوا حول حوض ماء كبير في المحطة. توضّأوا كلّهم كباراً وصغاراً، ثمّ صلّوا صلاةَ الصبح على رمل المحطة البارد.
هذا كلّه كان بالنسبة لي ـ أنا الذي لم أكن قد رأيت منظراً مثل هذا ـ مدهشاً جداً ومثيراً ومحبوباً لي. في تلك اللحظة رأيتُني أخرج من الممرّ بين الغرف، وأقف في ناحية أتطلّع إلى المصلّين، وقد ذُهِلتُ عن نفسي.. وهم واقفون بين يدَي الله يدعون ويتضرّعون.

  توقَّفَ القطار على مهل أمام باب القاعة الكبيرة في محطة سكّة حديد خرسان، وأخذ المسافرون ينزلون من القطار وهم يتسابقون في النزول.. واتّجهوا كالسَّيل إلى البوّابات.

أمّا أنا ـ وقد كنتُ ذاهلاً أمامَ هذا المنظر المدهش ـ فقد صَحبني أبي وأنزلني من القطار أيضاً. وما أن وضعتُ قدمي على أرض المحطة المفروشة بالحجر حتّى قلت لأبي: بابا.. هل نذهب الآن إلى الحرم ؟
نظر إليّ بمحبة، وهو يحمل الحقيبة الكبيرة، وقال: نذهب، أسرِع يا ولدي. نذهب أولاً إلى الفندق ونأخذ غرفة، ثمّ نتشرّف بالذهاب إلى الحرم.
لم أكن أريد أن أنتظر لحظة واحدة، لكني اضطُررت لسماع كلام أبي.
في الليل.. ارتفع فجأةً صوتُ الأذان. كان صوتاً يُناغي الروح لذيذاً، ملأ ما حول الحرم. صوت دافئ كلّه حبّ وحنان.. وكأنما هو صوت ملائكة في السماء يُنشدون نشيد التوحيد، وهم يَدْعون المُحبِّين المُصلِّين للتحدّث مع الله مرة أخرى.
داعَبَت يدٌ حنون وجهي: حسين.. انهضْ، نريد أن نذهب إلى الحرم.
وعلى خلاف عادتي كلّ يوم حين أقوم من الفراش بإلحاحٍ شديد من أبي.. نهضتُ بسرعة، وقلت وأنا أفرك عيني بيدي: بابا.. أليس الوقت الآن مُبكِّراً ؟! هل باب الحرم مفتوح الآن ؟! هل نستطيع الذهاب إلى الحرم في هذا الوقت من الليل ؟!
ابتسم أبي، وقد تهيّأ للذهاب.. وقال: نعم يا عزيزي، إنّ حرم الإمام الرضا عليه السّلام ـ وهو إمام المسلمين ومنتهى آمال البائسين والطالبين ـ لا يُغلَق في أيّ وقت. إنّ هذا الحرم لا يستطيع أحد أن يمنع الناس من الذهاب إليه. إنّ كلّ إنسان من أيّ بلد كان يقدر ليلاً ونهاراً أن يدخل إليه. دون أن يحتاج إلى إذن من أحد، وبإمكانه أن يظلّ فيه إلى أيّ وقت يشاء.
كنتُ منذ أمس في حالة روحية عجيبة. من هنا كنت أعدّ الدقائق لزيارة حرم الإمام عليه السّلام. وبدون أن أنطق بحرف.. بدأت أرتدي ثيابي، وذهبت مع أبي إلى الحرم.
الجو الروحاني في عتبة الإمام الرضا عليه السّلام.. مُضاءٌ بأنوار بيضاء حَوّلت الليلَ إلى نهار. كأنّ شمساً تتلألأ في وسط الصحن.
حَمامات الحرم تَخفِق بأجنحتها وهي تتنقّل من مكان إلى مكان، وتظلّ تحلّق بين الناس، وكأنّ علاقة صداقة ومعرفة تجمعها بهم منذ سنوات. الناس يُعاملون هذه الحمامات بمحبّة ومَودّة ويقدّمون لها حبوبَ القمح. ويظلّ الحرم في بحر من النور والضياء، وكأنّه شمعة كبيرة متوقّدة تجتذب إليها الفراشات الوالهة، فتدور بشوقٍ طافح حول وجود الإمام عليه السّلام دون أن تهتمّ للزمن الذي يمرّ. كأنّ الناس يقبّلون يد الإمام وجبينه حين يتبرّكون بلمس وتقبيل الضريح. الجو كلّه عظَمة وجلال ووقار.
وكان هذا كلّه ـ وأنا أُجرّبه لأول مرة ـ مصدرَ محبة وإعجاب. وجوه الزائرين الذين تركوا النوم في هذا الليل وقَصَدوا العتبة الطاهرة بقلوب مِلؤها الأمل والمسرّة.. كانت مغمورة بالنور والصفاء، وكانت مناجاتهم في هذه الساعة أحلى مناجاة. رائحة العطر وماء الورد تملأ الصحن وأنحاء الحرم، وتنبعث الأصوات الخاشعة التي كانت تتوجّه إلى الإمام الرضا عليه السّلام بالقراءة في كتاب الزيارة بصوتٍ مسموع.
أنا أيضاً كنت وسط الزائرين حول الضريح الطاهر. كنت أحاول أن أكون مثلهم.. لكنّي ـ مع ذلك ـ كنت بينهم كالغريب. لم أقدر أن أُحسّ بالتوجّه القلبي في روحانية الحرم. حاولت أن أجعل إحساسي يَخِفّ.. حتّى أصير كفراشة تطير بشوق حول شمعة وجود الإمام عليه السّلام. وذهبت إلى زاوية هناك.. حيث يقوم محراب صغير نُقِشَت عليه أبيات شعرية جميلة بخطّ رائع. وهناك وقفتُ مُستقبِلَ الضريح، ورُحتُ أتطلّع إلى وجوه الزائرين. كانوا يَموجون بمشاعر روحانية ومعنوية عالية، وكانت هذه المشاعر تزداد لحظةً بعد لحظة.
مرة أخرى.. شعرت بشعور الغريب.. ووجدتُ نفسي وحيداً بين هذا الجمع. أردتُ أن أكون بين الزوّار بقلبٍ صافٍ خالٍ من الرياء والشك.. فأطلب من الإمام عليه السّلام أن يساعدني، لكني لم أقدر. وبدون إرادتي سقطت قطراتُ دمع عيني على خدّي. بكيت.. لكني لا أدري لماذا بكيت. أحسستُ أن وجودي كلّه بدأ يتحرّك، وأخذ قلبي يدقّ بقوّة فجأةً شعرتُ أن أحداً يهزّ كتفي. التَفتُّ فرأيتُ أبي ينظر إليّ بمحبة وهو يضع يده على كتفي بلطف: ولدي حسين، تعالَ نزور الإمام عليه السّلام.
وعلى أيّ حال.. حان موعد رجوعنا. في ذلك اليوم ذهبت إلى الحرم لوداع الإمام في آخر زيارة. كانت حالتي لا تُوصَف، وأحاسيسي متدفّقة هائجة.
لم يكن لديّ وقت كثير، يجب أن أرجع بعد قليل. لكني ما كنت أقدر على ترك هذا المكان المقدس. كأنّ قوةً جاذبة قوية تَشدُّني إلى الحرم مثل المغناطيس، وتجعلني لا أُفارق هذا المكان. لا أدري كم مَرّ من الوقت. ربّما جرَّبَ كلُّ الناس حالة وداع شخص عزيز حبيب كم هي صعبة. أخيراً.. عزمتُ على الرجوع. ومرةً أخرى سلّمتُ من عُمق وجودي على الإمام العظيم.
بعد ساعة.. كنت في القطار. وما هي إلاّ لحظات حتّى تحرّك من مشهد في طريقه إلى طهران. محطة مشهد مزدحمة بالناس، وما تزال عبارات التوديع والتوصيات تنبعث من راكبي القطار. وبعد أن أصدر القطار صوت بوقه المديد.. بدأ بالحركة. المسافرون الواقفون عند النوافذ يُلوِّحون بأيديهم.. وهم يُودِّعون معارفهم وأصدقاءهم الذين جاءوا لوداعهم.
أمّا أنا وأبي.. فما جاء أحد لوداعنا؛ لأنّه ليس لنا في مشهد أهل وأصدقاء، وكانت هذه فرصة طيّبة لي لأُجدِّدَ عهداً بتلك الحالات الروحية الغامرة، وأُودّع الإمام.
القطار يبتعد بالتدريج عن محطة مشهد. قبّة الإمام الرضا عليه السّلام الذهبية والمنارات تلتمع في هذا الليل كالشمس. وها هي ماثلة بكلّ هذه العظمة الباقية وهذا الجلال الخالد.. وهي تنثر الأنوار على مدينة مشهد.
كنتُ ألتهب بنار داخلية مجهولة، وأحاول ما استطعتُ أن أتزوّد من النظر إلى القبّة ومنارات الحرم، وكنت أبعث إليها بقُبلة في الهواء. حتّى إذا بدأت القبة والمنارات تختفي خلال انعطافات الطريق.. جلستُ على الكرسي، وكان فرح كبير يملأ روحي وقلبي. وكنت ـ في صمتي ـ في مهرجانٍ روحي جميل تغمره معنوية الإمام الرضا عليه السّلام.