ذكريات لا تنسى

 
 
 

بكينا من الفرح

 
 
 

الوقت أول الصيف، والمدارس في العطلة. كنت أنا وأخي محمّد في الزقاق المجاور لبيتنا.. نصنع طيّارة ورقية، وكان بيتنا على ناصية الشارع. أكملنا صنع الطيّارة، فأخذتها إلى السطح، وقلت لأخي محمّد: إصعَدْ.
قال: أذهب لألعب كرة القدم مع محسن وأحمد والجماعة.
ذهب محمّد، وأخذت بتطيير الطيارة. كنت أواصل اللعب بالطيارة الورقية حين عثرت رجلي.. وفجأة: سقطتُ من السطح إلى الشارع. صرخت وأنا في الهواء بين السماء والأرض. ومن حُسن الحظّ أن منزلنا ذو طبقة واحدة، ولمّا سقطت على الأرض لم تنكسر غير يدي. لكنّ سيارة عابرة مرّت في تلك اللحظة فداست على يدي. وصرخت من شدّة الوجع، فنزل سائق السيارة مضطرباً، ونقلني إلى المستشفى.
وعلمتْ أمي بالخبر، فاتّصلتْ تلفونياً بأبي، فجاء إلى المستشفى. كنت أبكي من الوجع. قال سائق السيارة لأبي: واللهِ ليس الخطأ منّي، ولدك هو الذي سقط من السطح فجأة.
نظر أبي إليّ.. ثمّ قال للسائق: لا تقلق.. أنا أيضاً أدري أنه خطأ ولدي. ليست لنا قضية معك..
تستطيع أن تذهب.
كان السائق إنساناً طيّباً وخيّراً، فاطمأنّ لمّا سمع كلام أبي، لكنه قال: لا يا سيدي لن أتركك وحدك، على الأقل لازم أظل لأرى ما تكون حالة الولد.
وعندما وصل دَورنا في المستشفى.. دخلنا على الطبيب. الطبيب رأى يدي، ثمّ قال: خذوا ليده صورة.
أخذوني وصوّروا يدي. ومع أني كنت حزيناً جداً.. قلت لأبي: بابا.. يدي لا تؤلمني، فلنذهبْ إلى البيت.
تغيّر وجه أبي وقال لي: يدك لا تؤلمك ؟!
أخذني إلى الدكتور وهو يحاول أن يخفي أذيّته، وقال له: دكتور.. هذه الصورة.
نظر الدكتور إلى الصور، وقال: تعال يا ولدي.
تقدّمتُ إليه، فضغط على يدي وقال: أتؤلمك ؟
قلت: لا.
ثمّ ضربها بشيء شبيه بقضيب، وقال: والآن ماذا ؟
قلت: لا.
قال لي: إذهبْ خارج الغرفة لأحكي مع أبيك بعض الكلمات.
كنت واقفاً خارج الغرفة أنتظر لمّا خرج أبي وقال: رأيتَ ماذا صنعتَ بنفسك ؟!
نظرت إلى أبي الذي بدا بائساً منكسراً، وإلى السائق. أخذوني فوراً إلى غرفة العمليات، وهناك أعطوني مخدِّراً.
وحين أفَقتُ.. رأيت يدي ملفوفة بضماد. قلت: الحمد لله.. لم يحدث شيء مهم.
لكنّي لمّا أردتُ أن أحرّك يدي وجدت أنّي لا أستطيع. قال أبي: لا تحرّكها! تعال نذهب إلى البيت.
العملية كانت فوريّة. وبسرعة سمحوا لي بمغادرة المستشفى. وفي ذلك الوقت من الليل.. رُحنا إلى البيت بسيارة السائق، ثمّ ودّع أبي السائق فذهب.
أمي وإخواني وأخواتي كانوا ينتظرون. لم تغمض عيونهم. وحين وصلنا إلى البيت قالت أمي لأبي: مإذا جرى ؟!

  التفّ حولي إخواني وأخواتي يسألونني. وفجأةً ارتفع صوت بكاء أبي. قالت أمّي: بحياةِ حسن عليك.. ماذا جرى ؟!
قال أبي: الأطباء أرادوا قطع يده، لكنّي لم أوافق.
سمعنا هذا فسيطر علينا الاضطراب: أنا وإخواني وأخواتي. بكيتُ أنا، وبكيتْ أمّي.
وعلى أيّ حال.. راح الليل وجاء الصباح. قالت أمّي: لماذا لم توافق على قطع يده ؟
قال أبي: لا أريد أن يبقى ابني بدون يد. سأعمل كلّ ما أستطيع لتتحسّن يده.
وتصدّقَ أبي بمبلغ من المال، ووزّع نقوداً على الفقراء، ونذر نذراً.. لكنّي لم أتحسّن.
كان منتصف الصيف.. عندما ذهبنا ـ أنا وأصدقائي ـ لكي نتعلّم القرآن في « مكتب الإمام الصادق ». وقرّر المكتب أن يعمل للطلاب سفرة إلى مشهد. لكنّ أبي لم يأذن لي بالسفر، قال: بهذه اليد تريد أن تذهب ؟! ماذا ستعمل هناك ؟!
ما قلت شيئاً. وفي الليل عندما ذهبت لأنام.. صنعتْ أمّي بخوراً من الحرمل، وأدارت المبخرة على رؤوسنا جميعاً. ثمّ لمّا نمتُ سمعتُ في منتصف الليل صوتاً يقول لي: أنا أيضاً طبيب.. تعال عندي.
نظرت.. فرأيت قبّة ذهبية، وقلباً يطير حولها. وبغتةً نادَتْني أمّي: انهض صَلِّ صلاة الصبح، وتناوَل الإفطار.
صلّيتُ الصبح.. وعلى مائدة الإفطار حكيتُ الرؤيا لأبي وأمّي. عندها أذِن لي بالسفر إلى مشهد.
وجاء يوم السفر. كلّ الأولاد كانوا مسرورين. وجلستُ في القطار إلى جانب أكبر ومحسن.. وتحرّك القطار باتجاه مشهد.
ولمّا وصلنا نزلنا من القطار. ومشينا ـ مع الاستاذ زارعي معلّم المكتب ـ باتجاه حرم الإمام الرضا عليه السّلام. قال الأستاذ زارعي: لنذهب يا أولاد نتغّدى أوّلاً.
وذهب معه الأولاد. أمّا أنا فقد استأذنت الاستاذ لأذهب إلى الحرم. وحينما وصلت إلى الضريح أمسكتُه بيده واحدة وأخذت أُقبّله. قال لي رجل مديد القامة ذو عمامة سوداء وحزام من قماش أخضر: لماذا تُمسِك الضريح بيد واحدة ؟
قلت له: يدي هذه مشلولة.
قال: يمكن أن أراها ؟
قلت: لا مانع.
أمَرَّ الرجلُ يده على يدي التي لا تحسّ بشيء، ثمّ قال: هذه لا تُقطَع.
قال هذا وذهب دائراً خلف الضريح. حاولت أن أحرّك يدي لأرى إنْ كان الرجل قد سَخِر منّي. حرّكتُ يدي.. فتحركت. صحتُ من شدّة الفرح، فانتبه الناس إليّ وسألوني: ماذا حدث ؟!
لم أقُل لهم شيئاً، وذهبت أتتبّع الرجل.. فما وجدته. وأدركت في تلك اللحظة أنّه الإمام الرضا.. فأُغمي علَيّ من هذه المفاجأة السارّة. ولمّا رجعت إلى الوعي رأيت الأستاذ زارعي والأولاد يدخلون إلى الحرم، ولم يعرفوا ما حدث لي.
بعدها.. رجعنا من السفر، فأخبرتُ أبي بما جرى. فرح أبي كثيراً، وأحضَر خروفاً ذبحوه عند قدمي. وبكينا كلّنا سروراً وفرحاً. وقلت لأبي: بابا.. كلّ مَن اسمه «رضا» أعطِه من اللحم مقداراً أكبر.
وإلى مدة بعد هذا.. كان الناس يمسحون أيديهم بيدي طلباً للبركة. ونَذَر أبي أن يأخذ كلّ سنة عدداً من الناس ـ على نفقته الخاصة ـ إلى مشهد لزيارة الإمام الرضا عليه السّلام.