قصص عامة

 
 
 

ولدٌ صغيرٌ

 
 
 

في بلدةٍ بعيدةٍ.. كانَ هنالك ولدٌ صغيرٌ اسمهُ علي..
عاش عليٌّ في بلدته الهادئة التي تنتشر في سهولها وعلى تلالها وجبالها الأشجار المثمرة على أشكالها وأنواعها.. وتزينها الورود.. ويكسو أرضها بساط أخضر يملأ أنحاء البلدة معظم شهور السنة.. فتبدو البلدة في أجمل صورة وأبهى حلة على الدوام...
نشأ عليٌ في هذا الجو البديع.. يلهو ويلعب.. ويتعلم في مدرسة البلدة..
في أحد الأيام.. كان علي يلعب مع أصدقائه الصغار في باحة المسجد الخارجية لعبة (كرة القدم).. وكان الأولاد يصرخون ويرفعون أصواتهم من شدة حماستهم.. وفرحهم باللعبة.. وفي ركلة قوية من عليّ أصابت الكرة أحد أصدقائه الذي لم يتمالك نفسه فوقع أرضاً من قوة الركلة.. فنشبت بينهما مشادَّة.. فغضب علي وهمّ بضرب الفتي.. وقد كان علي أقوى منه..
وكان رجل شيخ يراقب هذا المشهد.. فنادى علياً بصوت المحب:
إهدأ يا ولدي.. وكن كأبي تراب.. فأنت تحمل اسمه..
عنما سمع الصغار هذا الصوت تجمَّدوا في مكانهم..
لم يتوقعوا وجود أحد قرب المسجد في هذا الوقت الحار من النهار، فقد مضى على صلاة الظهر أكثر من ساعة.. وذهب المصلون إلى بيوتهم.. لكن شقاوة الصغار تأبي أن ترتاح في وقت الظهيرة.. حيث يحلو اللعب والمرح والصراخ بعيداً عن الآخرين..
نظر الصغار نحو الشيخ الكبير.. كانوا يعرفونه جيداً.. فهو يحافظ على الصلاة دائماً في المسجد.. لكنهم لم يروه سابقاً في غير أوقات الصلاة.. فنادراً ما يخرج من بيته لغير الصلاة..
لم يكن كثير الكلام..
يؤدي الصلوات في أوقاتها...
يجلس في زاوية من زوايا المسجد.. يقرأ صفحة أو صفحتين من القرآن الكريم.. ثم يعود إلى بيته مستنداً إلى عكازه.. يستند عليها وقد انحنى ظهره إلى الأمام، وتطاولت لحيته البيضاء الناعمة.. التي كانت تلمع تحت أشعة الشمس، فتبدو في حسنها وجمالها مثل الذهب اللامع المضيء..
نظر الأولاد نحو الشيخ باستغراب.. وتحوّل ما كان من صخبهم ولعبهم إلى هدوء وسكينة..

وتوقف الأصدقاء عن اللعب وتركوا الكرة... ولم يكونوا قد لاحظوا من قبل وجود الشيخ قربهم، ولم ينتبهوا إلى أنّه كان يتابع لعبهم ومرحهم.. وكذلك خصامهم..
وكان علي وصديقه خجلين من نفسيهما لرفعهما صوتهما عالياً وهم في ظلال المسجد.. وقريباً من مئذنته..

  لم يتكلم الصغار كلمة واحدة..
لم يكن المشهد بالنسبة لهم عادياً..
الرجل لم يعتد أن يجلس مرة واحدة في هذا المكان.. ربما كان يجلس في الماضي، وليس على أيامهم وفي حدود أعمارهم الصغيرة..
كان الرجل طويل القامة ممتداً.. وبشرته تميل إلى الاسمرار.. ويكلل رأسه شيب مثل الثلج الأبيض... وكان شعر رأسه ولحيته ناعماً غزيراً.. وفي ملامحة قوة الرجولة.. وفي كلامه بلاغة الرصانة والحكمة.. لذا لم يكن أحد من الصغار وربما الشباب، يجرؤ على التحدث إليه.. مع أنّ الرجل لم يكن مخيفاًً.. لكن كبر سنه.. ونحول جسمه، وندرة خروجه من المنزل.. كل ذلك كان حائلاً بينه وبين الجيل الجديد من أبناء البلدة.. خاصة أنّه من بين أكبر رجال البلدة سناَ.. إن لم يكن أكبرهم على الاطلاق..
عندما سمع الأطفال صوت الرجل ورأوه ينظر إليهم؛ نظر بعضهم إلى بعض أن "هيا نغادر المكان".
عليٌ كان إحساسه غير ذلك..
وفي الوقت الذي تراجع الأطفال فيه إلى الخلف.. ظلّ علي واقفاً في مكانه يترقب..
فناداه الأصدقاء ليذهب معهم كل إلى بيته.. لكنّه ظل واقفاً ولم يتحرك..
كان الرجل يتأمّل المشهد بصمت، راسماً ابتسامة طيبة على شفتيه..
أراد علي الاقتراب من الرجل ليسلم عليه ويصافحه بيده..
طلب منه أصدقاؤه أن يبقى بعيداً عنه..
لكن علياً سار نحو الشيخ وكأنه لم يسمع كلمة واحدة.. وبسط يده مصافحاً... فرحب به الشيخ ودعاه للجلوس معه على مقعد قريب.. ونادى الأصدقاء الصغار للتقدم.. فتقدموا وهم على رهبة من هذا الشيخ الوقور..
فقال مطئناً: أجلسوا يا أحبائي.. ما بكم هكذا تجمدتم في مكانكم؟؟ أنا مثل جدكم.. اجلسوا ولا تخافوا..
فجلس الصغار.. متعجبين من صوت الرجل الرخيم.. ونطقه البليغ السليم..
قال عليٌّ بعد أن اطمأنَّ هو واطمأنَّ مثله الجميع:
لماذا قلت لي يا جدّنا كنْ كأبي تراب..
قال الشيخ الوقور والابتسامة تزيِّن وجهه الجميل:
يا بنيّ الحبيب.. أنا أعرف كل أبناء بلدتنا تقريباً.. وجدك (علي) رحمه الله كان صديقي.. وأنت يا عزيزي تحمل اسم جدك.. لقد مات صغيراً - رحمه الله - كان طيباً وأنت طيب مثله.. وقد ساءني أن تتعارك مع صديقك وابن بلدتك.. وانتما تصليان في مسجد واحد..

قال عليٌ: نحن لم نكن نتعارك.. وهذا ما يحدث مع كل الصبيان وفي كل مناسبة.. وقد اعتدنا على ذلك.. نتعارك ثم نتصالح.. ولكن ما علاقة عراكنا باسمي وبكنية أبي تراب؟؟!
قال الشيخ: بارك الله بكم يا أحبائي... ونحن أيضاً كنا مثلكم..
ثم ضحك الشيخ ضحكة من القلب شعر كل الصغار بعدها أنّه قريب منهم..

فقال الشيخ: آه يا أبنائي.. يا ليتني كنتُ أستطيع اللعب معكم كرة قدم.. إنَّها لعبة جميلة.. لكن كيف ألعب وأنا احمل هذه العصا الغليظة..
وقال ممازحاً: لو لعبت معكم سأغلبكم جميعاً لذا لا توجهوا الكرة نحوي بل نحو عصاتي... فسوف أقع على الأرض فوراً..
فضحك الصغار من لطف الشيخ..

قالَ علي: يا شيخنا.. أكرّر سؤالي لو سمحت لي؛ كنيتني بأبي تراب.. لماذا يا شيخ.. ولماذا قلت لي كن كأبي تراب.. وما علاقة ذلك باسمي..
قال الشيخ بعدما أجال بصره في البستان القريب.. ثم عدّل عمامته على جانب راسه.. وأمسك لحيته بحركات متتالية:
عندما شاهدتكما تتعاركان.. قلت لك كن كأبي تراب.. لأنّ اسمك علي.. وكنية ابن عم رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم)، علي بن أبي طالب رضي الله كانت (أبا تراب).
فقال الأطفال جميعاً: صلى الله واله وسلم على رسولنا الكريم وآله الكرام الأطهار..
وتابع الشيخ يقول: لقد كان علي قوي البنية فارساً من الفرسان الأشداء.. لكنَّه مع قوته وشدّته كان لطيفاً مع أصدقائه وأقرانه، وخاصة الضعفاء منهم، وكان يسامح من أساء إليه، ويساعد من يحتاجه..
تأمّل عليّ كل ما قاله الرجل العجوز ففهم مقصده..
قال الرجل: إني أعرف معظم أبناء بلدتنا.. لكني في الحقيقة لا أعرف كل الأطفال.. أعرف فقط من يرتاد المسجد بانتظام.. أحفظ اسماءهم من مناداتهم لبعضهم بعضاً..
نظر الأولاد إلى الرجل العجوز مستغربين من شدة انتباهه وقوة ذاكرته..