رجال التوحيد في تيار الحياة

 
 
 

سيّدنا إبراهيم عليه السّلام

 
 
 

مُحطِّمُ الأصنام

أقبَلَ الربيع.. وتَدفَّقَت المِياهُ في نَهرَي دِجلةَ والفُرات.. وابتَهَج الناس، وأُقيمَتِ الاحتِفالاتُ في مدينةِ أُور وغيرِها من مُدُنِ بابل.
عندما يُقبِلُ الربيعُ يَفرحُ الناس... وعندما يَرتَفعُ مَنسُوبُ المِياهِ في الأنهار يَفرحُ الفلاّحون.. الناسُ يَفرحونَ لأنّ مَحصولَهُم في الحُقولِ سَيَزداد.
ويَتَوجّه أهالي مدينةِ أُور إلى « الزَّقُّورة » وهو مَعبدٌ مُدرَّجٌ هَرَميُّ الشكل.. يأخذونَ معهم النَّذورَ والهَدايا فيُقدّمونَها إلى الآلهة.. خاصّةً الإله « مَرْدُوخ ».
وأهلُ بابلَ يُقيمونَ احتفالاتِهم خارجَ المُدُنِ في مكانٍ جميلٍ يَحتلفونَ بالربيع، يَرقُصونَ ويأكُلونَ ويَلعَبونَ.. وعندما ينتهي الاحتفال يَعودونَ إلى مَدينتِهم، ويَتوجّهونَ إلى المَعبَد.
المعبدُ في مدينةِ « أُور » في أعلى « الزّقُّورَة »، وهناك تَصطَفُّ الآلهة.. آلهةٌ كثيرةٌ كلّها مَصنوعةٌ ومَنحوتةٌ من الصَّخرِ والحِجارة..
البابليّونَ كانوا يَعبُدونَ الشمسَ والقمرَ.. ويَعبدونَ النُّجومَ ويعبدونَ أيضاً كوكبَ « الزُّهْرَة »... كما يعبدونَ المَلِكَ الذي هو مالِكُ الأرض..
في ذلك الزمانِ وقبلَ أكثرَ من أربعةِ آلافِ سنةٍ.. كانَ النًّمرودُ بن كَنْعانَ هو المَلِك وهو مالكُ الأرض.. ومالكُ الناس أيضاً... كانَ بعضُ الناسِ يَعبدونَهُ لأنّهم يخافون سَطوتَه.. فهو يَقتُلُ ويَسجِنُ ويأخُذُ من المَحاصيلِ ما يشاء..
في الربيع يَحمِلُ الناسُ نُذورَهُم ويَذهبون إلى المَعبد.. يأخذونَ معهم الماعزَ وسنابلَ القمحِ ويقدّمونها إلى الآلهة لكي تَرضى عنهم وتَمنَحَهُم البَرَكةَ والخيرَ!
النُّذورُ كلُّها كانت مِن نصيبِ الكَهَنة.. وكانوا عُلَماء بالنجوم.. لهذا كان الناسُ يَهابونَهُم.. وكان المَلِكُ نفسُه يَستَشيرُهم.

 
 

ميلادُ إبراهيم

ذاتَ يومٍ جاءَ كَهَنةُ المعبدِ وقالوا لِلنَّمرود:
ـ إنّ النُّجومَ تُخبِرُنا عن ميلادِ صبيٍّ تكونُ على يَدَيهِ نهايةُ مُلكِك.
قالَ النَّمرودُ بقَلق:
ـ متى سَيُولَد ؟!
قالَ الكَهَنة:
ـ في هذا العام.
في ذلك العامِ أصدَرَ النَّمرودُ أمراً بقتلِ الأطفالِ الذُّكور.
في ذلك العامِ وُلِدَ سيّدُنا إبراهيمُ الخليل..
خافَت الأُمّ على ابنِها.. ذَهَبت إلى المَغارَة.. ووَضَعت طِفلَها البريءَ هناك.. وعادَت إلى منزِلها.
لَم يَعلَمْ أحدٌ بما حَصَل.. النمرودُ قَتَل كثيراً من الأطفالِ ذلك العام.. الأُمّهاتُ كُنَّ يَبْكِينَ على أولادِهِنّ، بعضُهم كان عُمرُه شُهوراً، وبعضُهم أياماً، وبعضُهم ساعاتٍ قليلة.
النَّمرودُ كانَ خائفاً من ذلك الصبيِّ المَوعُود.. وعندما مَرَّ ذلكَ العامَ هدأ بالُه.. لأنّه قتَلَ جميعَ الأولادِ الذَّكور.
وُلِد سيّدُنا إبراهيمُ في مدينةِ « كُوثْريا » قريباً من مدينةِ « أُور » وبابل: نَشأ سيّدُنا إبراهيم في الغار...
اللهُ ربُّنا كانَ يَرعاهُ، عَلَّمهُ كيفَ يَمصُّ إصبعَهُ.. فيَتَغذّى.
« النَّمرودُ » أرادَ أن يَقتُل الصبيَّ.. والله أرادَ أن يعيشَ إبراهيمُ.. يعيش من أجلِ أن يَهدي الناسَ الوثنيّينَ إلى عِبادةِ الله.
كَبُرَ إبراهيمُ.. وجاءت أُمُّه إلى الغار، وقَبَّلَته واحتَضَنَته، ثمّ أخَذَته إلى بَيتِها.. الناسُ كانوا يَظنُّونَ أن إبراهيمَ كان عُمرُه سنتَين أو ثلاثَ سنين.. لم يكونوا يَعلَمون أنّه عُمرَه عِدّةُ أسابيعَ، لهذا لَم يَأخُذْه جنودُ النَّمرود...

الأصنام

في ذلك الزمانِ كان الناسُ يَعبدونَ الأصنامَ، كانوا يَعبدونَ مَرْدُوخَ « إله الآلهة »! و « أي » إله العدلِ والقانون! والإله « سين » إله السماء، والإلهة « عِشْتار » وغيرها.. وكان كثيرٌ منهم يعبدونَ الزُّهرةَ والقَمرَ والشّمسَ.. لم يَكُن هناكَ مَن يَعبدُ اللهَ سبحانه.. في ذلكَ الزمنِ وُلِدَ سيّدُنا إبراهيمُ ونَشَأ..

« آزَر »

كان آزَرُ عالِماً بالنُّجوم.. وكانَ يَصنعُ تَماثيلَ الآلهة.. النَّمرود كانَ يَستَشيرُ آزَر...
عاشَ سيّدُنا إبراهيمُ في مَنزلِ آزَر.. وآزرُ كانَ جَدَّهُ لأُمّه.. لهذا كانَ سيّدُنا إبراهيمُ يقولُ له: يا أبَتي..
كَبُرَ إبراهيمُ وأصبَحَ فتىً... الله سبحانه وَهَبهُ عَقلاً وذَكاءً، كان قَلبُه طاهراً.. نَظيفاً، لهذا لَم يَخشَعْ للأصنام.. لَم يُؤمِنْ بها... كان يَتعَجّبُ كيف يَعبدُ الناسُ الأصنامَ وهم يَنحِتُونها بأيديهم.. اللهُ أكبرُ من ذلك!
ذهبَ إبراهيمُ إلى المدينة..
كانَ يَبحثُ عن الحقيقةِ. كان الوقتُ مَساءً... الظَّلامُ يَغمُرُ المدينة.. ليس هناكَ مِن ضَوءٍ سوى في المَعبدِ.. الناسُ الذينَ كانوا يَعبُدونَ كوكبَ الزُّهرةِ اتَّجهوا إلى السماءِ في خُشُوع.. كانوا يَعتَقِدونَ أنّ ذلكَ الكوكبَ هو رَبُّهم.. هو الذي يَرزُقُهم ويَمنَحُهُم البَرَكة والخَير!
وَقَف إبراهيمُ معهم.. كانَ يَنظُر إلى السماءِ يَبحَثُ عن الحقيقةِ.. يَبحَثُ عن الإلهِ الحقّ... في الأثناءِ بَزَغَ القمرُ.. ظَهَر في السماء. كانَ يتألّقُ بنورِه الفِضيّ..
سيّدُنا إبراهيم كانَ فتىً عاقلاً، أرادَ أن يُنَبِّهَ الناسَ إلى ضَلالِهم، أراد أن يَقولَ لَهُم: إن اللهَ أكبرُ من ذلك.. من أجلِ هذا قال لهم:ـ هذا رَبِّي!
الناسُ الذيَن كانوا يَعبدُونَ كوكبَ الزُّهرةِ التَفَتوا إليه.. قالوا:
ـ كيف ؟!
قال إبراهيم:ـ لأنّه في مكانٍ عالٍ.. ويضيء.
وبعد قليل غابَ كوكبُ الزُّهرة، فقال لهم إبراهيم:
ـ كوب الزُّهرة ليس ربّي.
تعجّبوا وقالوا له:ـ لماذا ؟
فقال إبراهيم:ـ لقد اختَفى كوكبُ الزهرة الذي تعبدونه.. والإله الحق لا يختفي ولا يغيب...
مَرّ الوقتُ والقمرُ يسيرُ في السماء حتّى اختَفى.
بعد ساعةٍ اشرَقَت الشمسُ.. هتَفَ إبراهيم:ـ هذا ربّي!... هذا أكبر..
بعضُ الناسِ صَدّقوا ما يَقولُه الفَتى.. ربّما كانَ على حقّ.. الشمسُ هي التي تَهَبهُم النورَ والدِّفء.
ولكنّ الشمسَ غابَت أيضاً وعادَ الظلامُ مرّةً أخرى! نَظَر إبراهيمُ إلى السماء وهَتَف:ـ أنا أتبرّأُ من عبادةِ الشمس.. إنّها ليست الربَّ المَعبود.. إنني أعبُد الله الذي خَلَق الزُّهرةَ والقمرَ والشمسَ وخلَق الأرضَ والسماءَ وخَلَقنا جميعاً.

الفَتَى المُؤمن

شاعَت كلماتُ إبراهيمَ الفَتَى الذي لا يَهاب الآلهةَ ولا يخافُ مِن النَّمرود...
سَمِعَ الناسُ إبراهيمَ يَسخَرُ من الآلهةِ المُزيَّفةِ التي لا تَضُرُّ ولا تَنفَع.
كَبُرَ إبراهيمُ، أصبَحَ عمرُه ستَّ عَشرةَ سنةً، جميعُ أهلِ بابلَ عرَفوا أن إبراهيمَ لا يَعبُد الآلهة.. كثيرٌ منهم رأوه يَسخَرُ منها.
حتّى آزَرُ جَدُّ إبراهيمَ رآه مرّةً يَنحِتُ صَنَماً جميلاً أجملَ من الاصنامِ التي يَنحِتُها آزر، في البدايةِ فَرِخَ آزَرُ.. ظنّ أنّ إبراهيمَ سيَرَعى المعبدَ معه، ولكنّ إبراهيم كَسّرَ الصنمَ الذي نَحتَه.
آزرُ غَضِبَ كثيراً من عملِ إبراهيمَ، قالَ له:ـ لماذا حَطَّمت الإلهَ يا إبراهيم ؟! ألا تَخْشى غَضَبَ الآلهة ؟؟
قال إبراهيمُ بأدب:ـ يا أبتِ لِمَ تَعبُدُ ما لا يَسمَعُ ولا يُبصِرُ ولا يُغْني عنكَ شيئاً ؟!
يا أبتِ لا تَعبُدِ الشَّيطانَ إن الشَّيطانَ كانَ لِلرحمنِ عَصِيّاً.
قال آزرُ بعصبيّة:ـ أراغِبٌ أنتَ عن آلِهتَي يا إبراهيمُ ؟! لَئِن لَمْ تَنْتَهِ لأرجُمَنَّكَ واهْجُرْني مَليّاً.
كان إبراهيمُ فتىً مُؤدّباً، وكان يُحبُّ جدَّه آزرَ، كانَ يقولُ له: يا أبي.
لهذا سلّم على آزرَ قبل أن يُغادِرَ المنزلَ، قالَ له:ـ سلامٌ عليكَ، ساستَغفِرُ لكَ ربّي إنّه كانَ بِي حَفيّاً.
دعا إبراهيمُ ربَّه أن يَهديَ آزرَ إلى النورِ وإلى الإيمان.
إبراهيمُ اعتَزَل الناسَ، راحَ يَعبُدُ اللهَ الواحدَ الأحدَ، الناسُ كانوا في كلِّ مناسبةٍ يَذهبونَ إلى المعبِد لَيَركَعوا للأصنامِ ويُقدّموا لها النُّذور، أمّا إبراهيمُ فكانَ يعبدالله وحدَهُ ويَتبرّأ من الأصنامِ والأوثان.

الربيع

كان سيّدُنا إبراهيم يُفكّرُ في هِدايةِ الناسِ إلى عِبادةِ الله الواحد.. الناسُ كلُّهم كانوا يَعبدونَ الأصنامَ والكواكبَ ويعبدونَ أيضاً النَّمرود.
حَلَّ فصلُ الربيعِ وتَفتَّحَت الورودُ، وزادَ الماءُ في النهر.
الناسُ فَرِحوا بالربيع، وبدأوا يَستعدّونَ للاحتفالِ بموسِم الربيعِ والخِصبِ والنَّماء.
في ذلك الزمانِ كانَ الناسُ يَذهَبونَ إلى خارجِ المدينةِ لِيُقيموا الاحتفالَ، يأكُلونَ ويَرقُصونَ، ويَلعَبونَ، بعدَها يَعودونَ إلى المدينةِ ليُقدّموا النذورَ للآلهةِ في المَعبدِ ويُقدّموا الهدايا إلى الكَهَنة.
الناسُ كانوا يَستعدُّونَ للذَّهابِ خارجَ المدينة.. سيّدُنا إبراهيمُ لم يَستعِدَّ ولم يُفكّرْ بالذَّهابِ للاحتفالِ، قالوا له: لِماذا لا تَذهَبُ يا إبراهيم ؟!
سيّدُنا إبراهيمُ قالَ: أنا سَقيم.. مَريض!
كان سيّدُنا إبراهيمُ حَزيناً من أجلِ الناسِ. إنّهم لا يَعرِفونَ الطريقَ الصحيح.
سيّدُنا إبراهيمُ كانَ يَختلِفُ عنهم في كلِّ شيء، كانت مَلابِسُه نظيفةً، وكانَ يُقلِّم أظافِرَهُ ويَحلِقُ شَعرَه.
ذَهَب الناسُ إلى خارجِ المدينةِ، حتّى النَّمرودُ والكَهَنةُ كلُّهم ذَهَبوا للاحتفالِ بالربيع.
ظَلَّ سيّدُنا إبراهيمُ وَحيداً في المدينة، أخَذَ مَعهُ فأساً وذَهَب إلى المَعبدِ الكبير.
في المعبدِ آلهةٌ كثيرةٌ كلُّها مَصنوعةٌ مِن الحَجَر..
بعضُ الآلهة كانَ صغيراً وبعضُها الآخَرُ كانَ كبيراً، وكانَ هناك صَنَمٌ كبيرٌ جدّاً كانوا يُسَمّونَهُ « مَرْدُوخ » إله الآلهة.
صَعِدَ سيّدُنا إبراهيمُ سُلَّمَ المَعبدِ، كانَ المَعبدُ خالياً تماماً...
الأصنامُ فقط كانت مَوجودةً... ورائحةُ الدِّماءِ واللُّحومِ المُتَعفّنة.
نَظَر إبراهيمُ إلى عشراتِ الآلهة المُزَيَّفة. فَكّرَ في نفسِه: كيفَ يَعبُدُ الإنسانُ حَجَراً لا يَنفَعُ ولا يَضُرّ ؟!..
الأصنامُ جامدةٌ في مكانِها لا تَتحرّك، لا تَتكلّم، ولا تَفعلُ شيئاً!
هَتَف سيّدُنا إبراهيمُ بغضب:
ـ ألاَ تأكُلون ؟!
وتَرَدّد صوتُه في المَعبدِ الخالي: ألاَ تأكلون ؟!
صاحَ سيّدُنا إبراهيم:
ـ ما لَكُم لا تَنطِقون ؟!
وتردّدَ صوتُ إبراهيمَ في فضاءِ المَعبدِ: ما لَكُم لا تَنطِقون ؟!
أرادَ سيّدُنا إبراهيمُ أن يُحطِّمَ هذه الآلهةَ المُزيَّفة، أن يُثبِتَ للناسِ أنّها مُجرَّدُ حِجارةٍ صَمّاء.
لهذا استَلّ فأسَهُ وراحَ يُهَشِّمُ وُجوهَ الآلهةِ الحَجَريّة..
كانت الأصنامُ تَتَهاوى تَحتَ ضَرَباتِ الفتى إبراهيم..
كانَت تَتَهاوى أنقاضاً أمامَ قَدَميه.
وصَلَ إبراهيمُ إلى كبيرِ الآلهة.. إنَقَدَحَتْ في ذِهنهِ فِكرة.
عَلّق الفتى إبراهيمُ الفأسَ برقَبَةِ كبيرِ الآلهة.
غادرَ إبراهيمُ المعبدَ بعد أن حَوّلَ الأصنامَ إلى انقاضٍ مَلأت المعبد.. كأنّ زِلزالاً عَنيفاً ضَرَبها وحَطّمها.
غادرَ الفتى إبراهيمُ المعبدَ ونَظرَ إلى السماء.. كان هناك سِرْبٌ من الحَمامِ الأبيض يُحلّق في السماءِ الزرقاءِ بسلام.
انتَهَت احتفالات الربيع، عادَ أهلُ بابلَ إلى المدينةِ. كانَ المساءُ قد حَلّ، وغَمَرَ الظلامُ المدينة.
حانَ وقتُ تقديمِ النُّذورِ إلى الآلهة... تَوجَّهوا إلى المعبدِ الكبير.. كانوا يحملونَ المشاعلَ والنُّذورَ والهدايا ويَتّجهونَ إلى المعبد في موكبٍ طويل.
الكَهَنةُ كانوا يَتقدّمونَ المَوكب.
وهنا أُصيبَ الكهَنَةُ بالدَّهشة.. الناسُ أيضاً كانوا يَنظُرونَ في ذُهول..
كانَ منظرُ الآلهة المُحطَّمة مُدهِشاً.. كلُّ الآلهةِ تَحوّلت إلى أنقاض؛ ما عدا كبيرَ الآلهة!!.
كان سيّدُ الآلهة ما زالَ في مكانهِ جامداً منذ سنينَ طويلة.. ولكنّه في هذه المرّةِ يَحمِلُ على عاتقهِ فأساً!!
لمَ يَتقدّم أحدٌ إلى كبيرِ الآلهة ليسألَهُ عمّا حَصَل!
وهو أيضاً ظَلّ ساكتاً كعادتهِ لأنّه مُجرّدُ حَجَر!
حَدَثَت ضجّةٌ، وتساءل الكَهَنةُ: مَن الذي تَجَرّأ على تَحطيمِ الآلهةِ المُقدّسة!!
قال أحدُهم: هناك شخصٌ واحدٌ يُمكنُ أن يكونَ هو الفاعل.. هو الذي تَجَرّأ على الآلهةِ وكَسَّرها.
إنّه الفتى إبراهيمُ.. طالَما سَمِعناهُ يسْخَرُ منها ويقولُ عنها إنّها لا تَضرّ ولا تَنفع.
الكَهَنةُ كانوا غاضِبين جدّاً.. غاضبين من إبراهيمَ. إنّه الوحيدُ الذي يَذكُر الآلهةَ بالسُّوء!
المُحاكمَة
جاءَ النُّمرودُ إلى المعبد.. لقد حَدَثَ شيءٌ خَطيرٌ يُهدِّدُ عَرْشَ المَلِك بالخَطَر..
لهذا أصدَرَ النَّمرودُ أمراً بإلقاءِ القبضِ على إبراهيمَ ومُحاكمتهِ في المَعبد.
اتَّخَذ القاضي مكانَهُ إلى جانبِ النَّمرود، وكان المعبدُ يَغصُّ بالناس.
أحضَرَ الجنودُ الفتى إبراهيمَ. أوقَفُوه أمامَ القاضي والنَّمرود.
وبَذأت المحكمةُ بحديثِ القاضي:
ـ نَعرِفُ أنّك تسَخَرُ من الآلهة.. ونَعرِفُ أيضاً أنّكَ لم تَشتَرِك مع أهلِ بابلَ في احتفالِ الربيع.
والآنَ أخبِرْنا عن الذي فَعَل هذا بآلهتِنا... هل أنتَ فَعَلتَ هذا بآلهتِنا يا إبراهيم ؟!
قالَ إبراهيمُ بهدوء:
ـ بَلْ فَعَلَهُ كبيرُهم، فاسألُوهم إن كانُوا يَنطِقونَ!
الناسُ جميعاً نَظَروا إلى كبيرِ الآلهة.. كانَ يَحمِلُ على عاتقهِ فأساً، ولكنّه لم يَقُل شيئاً أبداً.
قال القاضي:
ـ ولكنّك تَعرِفُ أن هؤلاءِ لا يُمكِنهُمُ النُّطقُ ولا يُمكِنُهم أن يَتَكلّموا حتّى يكونَ بِمَقدورِهم الجَواب!!
وهنا قالَ إبراهيم:
ـ فكيفَ تَعبُدونَ ما تَنحِتُونَ بأيديكُم ؟!
كيفَ تَعبُدونَ أصناماً حَجَريّةً لا تَضرُّ ولا تَنفعُ ولا تَتكلّمُ ولا تَستَقبلُ نُذورَكُم وهَداياكُم؟!
كلُّ الناسِ في المعبدِ أطرَقُوا برؤوسِهم.. حتّى القاضي أطرَقَ برأسِه.. قالوا في أنفسِهم: إنّ الحقَّ مع إبراهيم، كيف يكونُ الحَجَرُ إلهاً.. كيف نَعبدُ تِمثالاً جامداً لا روحَ فيه ولا حياة ؟!
الكَهَنةُ غَضبوا.. ليس في مَصلحتِهم أن يَهتديَ الناسُ. ستَزولُ سُلطتُهم ويَنتهي نُفوذُهم. لهذا صاحُوا:
ـ كيفَ تَغفِرونَ لإبراهيمَ ما فَعَله بالآلهةِ المُقدّسة!!
كيفَ تَتسامحونَ مع إبراهيمَ الذي حَطَّم آلهتَنا التي تَهَبُنا الخيرَ والخِصْب ؟؟
النَّمرودُ وَقَفَ إلى جانبِ الكَهَنةِ. تذكّر نُبوءتَهم القديمةَ عن الصبيِّ الذي سيكونُ زوالُ مُلكهِ على يَدَيه!
صَرخَ النَّمرودُ بصوتٍ حانِق:
ـ إنَ ما فعَلَه إبراهيمُ جريمةٌ، وهو يَستحقُّ العقوبة.
الناسُ جميعاً نهَضَوا إجلالاً للنَّمرودِ وتأييداً له..
النَّمرودُ قال:
ـ يَجبُ أن نُدافعَ عن الآلهةِ المقدّسة... وأن يُعاقَبَ إبراهيمُ بإلقائه في النار.
الناسُ جميعاً حتّى آزرُ جدُّه هَتَفوا ضِدّ إبراهيم.
كان هناكَ أفرادٌ قلائلُ حَزَنوا من أجلِ إبراهيم، بَينَهُم سارةُ بِنتُ خالتهِ ولُوط.
كانت سارةُ فتاةً عاقلةً آمَنَت بكلماتِ إبراهيم، ولوطٌ أيضاً هو الآخَرُ كان مُؤمناً باللهِ الواحدِ الأحدِ وبرسالةِ سيّدِنا إبراهيم.
أُلقيَ سيّدُنا إبراهيمُ في السِّجن إلى حينِ تنفيذِ الحُكم.
النارُ التي أُريدَ إلقاءُ إبراهيمَ فيها، كانت عظيمةً.. كبيرةً جدّاً، لهذا بَدأوا بجمعِ الحَطَب.
مَضَت أيامٌ وليالٍ وهم يَجمعونَ الحَطَبَ... كلُّ الناسِ الوثنيّينَ كانوا يُسهِمونَ بجمعِ الحَطَبِ من أجلِ الثأرِ للآلهةِ المُحَطَّمة!
في تلك الفترةِ أرادَ النمرودُ أن يُجادِلَ إبراهيمَ حولَ الإله الواحد!!
جاءَ إبراهيمُ إلى قصرِ النَّمرود؛ وقَفَ أمامَ النَّمرودِ. لم يَنْحَنِ له ولم يَسجُدْ، لم يَركعْ له ولم يَخضَعْ.
سيّدُنا إبراهيم لا يخافُ أحداً إلاّ الله، ولا يَعبدُ أحداً إلا الله سبحانه.
قال النَّمرودُ بِغُرور:
ـ مَن هذا الإله الذي تَعبدُه يا إبراهيم ؟
قال سيّدُنا إبراهيم:
ـ إنني أعبدُ الإله الذي يُحيي المَوتى، ويُميتُ الأحياء.
قال النَّمرودُ باستعلاء:
ـ أنا أُحيي وأُميت!
صَفّقَ النمرودُ بيدِه وصاح:
ـ أحضِروا سَجيناً وشخصاً آخرَ محكوماً بالموت.
جاء الحُرّاسُ ومعهم شَخصانِ مُقيَّدانِ بالسَّلاسِل والأغلال.
قالَ النمرودُ للجَلاّد:
ـ اضرِبْ عُنُقَ هذا السجين، وأطلِقْ سَراحَ المحكومِ بالمَوت.
التَفَت النمرودُ لإبراهيمَ وقال:
ـ هل رأيتَ ؟! لقد أمَتُّ الحَيّ وأحيَيْتُ المَيِّت ؟!
سيّدنا إبراهيمُ أعرَضَ عن مُجادَلةِ النمرودِ في هذا الموضوع.. لأنّ ما فَعَلُه النمرودُ لم يكن صحيحاً، لهذا قال له:
ـ إنّ ربّي الذي أعبُدُه جَعَلَ الشمسَ تَطلعُ من المَشرِق، فهل يُمكنكَ أن تَجعَلها تَطلعُ من المَغرب ؟
فُوجئ النمرودُ بسؤالِ إبراهيم!! إن أحداً لا يَملِكُ القدرةَ على ذلك، لهذا بُهِتَ النمرودُ الكافرُ ولم يَقُلْ شيئاً.
الطُّيورُ الأربعة
فكّر النَّمرود مرّةً أخرى أن يُجادِلَ سيّدَنا إبراهيمَ.. أن يقولَ له:
أنا أحيي وأميت، أمّا ربُّك فلا يقَدِرُ على ذلك ؟
أنتَ تدّعي ذلك فقط..
مرّةً أخرى أخرَجوا إبراهيمَ من سجنهِ، أوقَفُوه أمامَ النمرودِ. قال له: ألم تَقُل إن ربَّكَ يُحيي ويُميت ؟ فهَيّا أرِني ذلك.
نَظرَ سيّدُنا إبراهيمُ إلى السماء، وقال: إنّ ربّي قادرٌ على ما يشاء..
رَفَع إبراهيمُ يدَيه إلى السماءِ وقالَ:
ـ ربِّ أرِني كيف تُحيي المَوْتى.
اللهُ ربّنا قال:
أوَ لَم تُؤمِنْ يا إبراهيم ؟!
قالَ سيّدُنا إبراهيم:
ـ نَعَم، أنا أؤمن، ولكنْ لِيطمئنّ قلبي.
أوحىَ الله سبحانه أن يأخُذَ أربعةً من الطُّيورِ ويَذبَحَهُنَّ ثم يُوزِّع لُحومَهنّ على أربعةِ جبال..
سيّدُنا إبراهيمُ أخَذَ سِكّيناً وذبَحَ أربعةَ طيورٍ، وضَعَ لُحومَهنّ على أربعةِ جبال.
ليس هناك مَن يَستطيعُ أن يُعيدَ الحياةَ إلى الطيورِ الميّتة، إلاّ الله الذي خَلَق كلَّ شيء... الله الذي وَهَبَ الحياةَ للإنسانِ والحيوانِ والنبات.
وَقَف سيّدُنا إبراهيم في وسطِ الجبالِ وهَتَف:
ـ أيّتُها الطيورُ الذَّبيحةُ؛ هَلُمِّي إلَيّ بإذنِ الله.
وهنا حَدَثَ أمرٌ عجيب! عادَت رُؤوسُ الطُّيور إلى أجسادِها، وعادَتْ أجنِحَتُها، وعادَتِ الحياةُ في أجسامِها..
قُلوبُها تَنبِضُ وأجنحتُها تَخفِق.. حَلَّقت الطيورُ في السماء، ثمّ هَبَطت عندَ قَدَمي سيّدنا إبراهيمَ. وسجَدَ سيّدُنا إبراهيم للهِ الخالقِ القادر، أمّا النمرودُ فقد كَفَر مرّةً أخرى، وأصدَرَ أمرَهُ بإعادةِ إبراهيمَ إلى السجن.
النارُ الكبرى
عَرَف البابليّونَ ومِن قَبلِهم السُّومريّونَ النّفطَ والقارَ، وعَرَفوا أيضاً الكبريت. لهذا فكّر البابليّون في إيقاد أكبرِ شُعلةٍ ناريّة في بلادِهم، كلُّ ذلك من أجلِ قتل سيّدِنا إبراهيمَ الذي حَطّمَ آلهتَهُم المُزيَّفة..
أكثر من شهرٍ وَهُم يَجمعونَ الحَطَبَ خارجَ المدينة.. أكثر من شهرِ وهم يُضيفونَ إلى الحَطَبِ القارَ ويَصُبّونَ عليه النفط.
أصبَحَ مَنظرُ أهلِ بابلَ وهم يَحمِلونَ حُزَم الحَطَبِ إلى خارج المدينة عاديّاً..
كلُّ الوثنيّينَ الذين يَخضعونَ للآلهةِ ويَسجُدونَ للأصنامِ كانوا يُسهِمون في جمعِ الحَطَبِ من أجلِ أن تُبارِكَهُم الآلهة!!
وجاءَ يومُ تنفيذِ الحُكم. إقتادَ جنودُ النمرودِ سيّدَنا إبراهيمَ إلى خارجِ المدينة.. أهلُ بابلَ أيضاً خَرَجوا لمشاهدةِ تنفيذِ الحُكمِ بحقِّ الفتى إبراهيم.
جاءَ الكَهَنةُ وأوقَدوا النارَ، اشتَعَلتِ النارُ بسرعةٍ في الحَطَب؛ لأنّ الحَطَب كان مَنقوعاً بالنفطِ والقار.
ارتَفَعت ألسنةُ النارِ في جَبَلِ الحطبِ.. ارتَفَعت ألسنةُ النارِ إلى عشراتِ الأمتار..
أهلُ بابلَ فَرّوا تَراجَعوا إلى الوراء حتى لا تُحرِقَهُم، كانَ سيّدُنا إبراهيم ينظرُ بهدوءٍ إلى النار.. كان سيّدُنا إبراهيمُ مؤمناً باللهِ وهو لا يخافُ أحداً إلاّ الله..
كانَ سيّدُنا إبراهيمُ مُوثَقَ الأيدي، الكَهَنةُ تَصوّروا أن إبراهيمَ عندما يَرى تلكَ النارَ العظيمةَ فإنّه سيَعتَذرُ سيَسجدُ للآلهة ويطلبُ العفوَ من الكَهَنة.. ولكنّ الفتى إبراهيمَ كانَ مُطمئناً هادئاً، كانَ يَنتظرُ مَصيرَهُ بِصَمْت.
وهنا حَدَثت المُشكلة! كيف يُمكنُ إلقاءُ إبراهيمَ في النار ؟
إن أحداً لا يستطيعُ أن يقتربَ من تلك النارِ الكبرى. إنها تُحرِقُ على بُعدِ عَشَراتِ الأمتار.
اجتَمعَ الكَهَنةُ وفَكّروا في حلِّ المُشكلة، اقترَحَ أحدُهم فكرةً شيطانية. قال:
ـ نَضَعُه في المنجنيق.
رَسَم الكاهنُ فوقَ الأرضِ المنجنيق.. كانت فكرةً شيطانية، فالمنجنيقُ يَستطيعُ أن يَرميَ إبراهيمَ في قلبِ النار الهائلة مِن بَعيد.
شَرَعُ العُمّالُ في تَنفيذِ الفكرةِ.. أصبَحَ المنجنيقُ جاهزاً.. جاءوا بإبراهيمَ ووَضَعوهُ في المنجنيق.
كان سيّدُنا إبراهيم ما يزالُ هادئاً جدّاً.
الناسُ كانوا يَنظرونَ إلى الفَتى إبراهيمَ ويَتعجّبونَ من ثَباتهِ وصَلابتهِ.
في تلك اللحظاتِ الخَطيرةِ، جاءَ المَلاكُ إلى إبراهيمَ، قالَ له: هل تَحتاجُ شيئاً ؟
إبراهيمُ كانَ لا يفكّرُ في شيءٍ سوى الله سبحانه ولا يَطلبُ من أحدٍ شيئاً.
إنّه يطلبُ حاجَته من الله عزّوجلّ، لهذا قالَ سيّدُنا إبراهيمُ للمَلاكِ: أنا لا أحتاجُ أحداً إلاّ الله، ولا أطلبُ شيئاً إلاّ من الله.
الله سبحانه امتَحَن إبراهيمَ.. امتَحَن إيمانَهُ وإخلاصَه، كانَ إبراهيم مؤمناً ومُخلِصاً..
سَحَبَ الجنودُ حِبالَ المنجنيق.. وفي لحظةٍ أصبحَ إبراهيمُ في الفضاءِ في طريقهِ إلى قلب النار الكبرى.
اللهُ سبحانه هو خالقُ النارِ.. اللهُ خَلَق النار وجَعَل فيها قُدرةَ الإحراق، ولكنّ الله سبحانه قادرٌ على أن يَسلُبَ من النارِ قُدرتَها على الإحراق..
أوحى الله سبحانه إلى النارِ قائلاً:
ـ يا نارُ كُوني بَرْداً وسَلاماً على إبراهيم .
النارُ ظَلّت مُشتَعِلةً، ولكنّها فَقَدَت قُدرَتَها على الإحراق.
النارُ لم تَمَسّ إبراهيمَ بسوء، أحرَقَتْ فقط الحِبالَ التي أوثَقُوه بها..
تحَوَّلَت المنطقةُ التي وَقَع فيها إبراهيم إلى حَديقةٍ جميلةٍ مَليئةٍ بالورود.. وكانت النارُ تُحيطها من كلِّ صَوب.
النارُ ظَلّت مُشتعلةً، ألسنتُها تَتَصاعدُ في الفضاء، ولكنّها كانت بَرْداً وسَلاماً على إبراهيم.
الله سبحانه امتَحَنَ إبراهيمَ، عرَفَ إخلاصَه،ُ لهذا أكرَمَهُ وأنقذَهُ ونَصَرهُ على أعدائه.
النَّمرودُ كانَ يَنتظرُ خُمودَ النار وانطفاءها؛ كان يريدُ أن يَرى مصيرَ إبراهيمَ حتّى يَحتفِلَ بانتصارِه عليه.
النارُ كانت كبيرةً جدّاً، ظَلَّت مُشتعلةً أياماً وليالي، وشيئاً فشيئاً خَمَدت النارُ حتّى انطَفأت.
ذَهَب النمرودُ إلى النارِ ليرى ماذا حَلَّ بإبراهيم، هل تَحوَّل إلى رماد!
تَعجَّب النمرودُ، تَعجَّب أهلُ بابل، أدركوا جميعاً إنّ ربَّ إبراهيم كانَ قويّاً وكبيراً وقادراً، فتَركوا إبراهيم يعيشُ بحريّة.
الهِجرة
ظَلَّ سيّدُنا إبراهيمُ سَنَواتٍ وسنواتٍ.. تزوّجَ من ابنةِ خالتهِ المؤمنةِ سارة..
كانت سارةُ فَتاةً ثَريّةً تَملِكُ أرضاً وماشيةً، فأهدَت كلَّ ذلك إلى زوجِها إبراهيم.
راحَ سيّدُنا إبراهيمُ يَعملُ في الأرض، ويَرعَى الماشية، فازدَهَرت أرضُه ونَمَت ماشيتُه وبارَكَهُ الله.
كانَ سيّدُنا إبراهيمُ سَخيّاً كريماً يُكرِمُ الضُّيوفَ، ويُحبُّ الفقراءَ، وهكذا عاش إبراهيمُ بين قومهِ، يَدعوهُم إلى عبادةِ الله الواحدِ ونَبْذِ الأصنام.
الكهنةُ كانوا يَكرهونَ سيّدَنا إبراهيمَ، والنمرودُ كان يخافُ على مُلكهِ، لهذا قرّروا إخراجَ إبراهيمَ من أرضِ بابل.
أمرَ النمرودُ بطردِ إبراهيمَ من أرضِ بابلَ ومُصادرةِ كلِّ ما يَملِكهُ من الماشيةِ لأنّها مِلكٌ لبابل.
سيّدُنا إبراهيمُ قال لهم: إذا أخَذتُم أموالي وأملاكي فأعِيدوا إليّ ما أنفَقتُه من عُمري في هذه البلاد.
رُفِعتَ الشَّكوى إلى قاضي بابل، القاضي أصدَرَ حُكمَهُ بأن يُسلِّم إبراهيمُ كلَّ ما يَملكه إلى مَلِك بابل، وفي المقابلِ أن يُعيدَ الملكُ إلى إبراهيم عُمرَهُ الذي قَضاه في أرضِهم.
لهذا تراجَعَ النّمرودُ وسَمحَ لسيّدِنا إبراهيم بالهجرةِ مع أموالهِ وماشيته.
وقالَ سيّدُنا إبراهيمُ وهو يُغادِرُ أرضَ بابل: إني ذاهبٌ إلى ربّي سَيَهديني.
ذهبَ إبراهيمُ إلى أرضٍ أخرى ليدعو الناسَ إلى عبادةِ اللهِ الواحدِ وتركِ عبادةِ الأصنامِ والأوثان.
كانَ سيّدُنا إبراهيمُ يُحبُّ الناسَ، ويُحبُّ أن يَعيشوا سُعَداءَ، من أجلِ هذا تَرَك أرضَ بابلَ وذَهَب إلى فلسطين.
هاجَرُ
وَصَل سيّدُنا إبراهيمُ ومَعَه زوجتُه سارة ولوطٌ إلى مملكةِ الأقباط.
كان على سيّدِنا إبراهيمَ أن يَدفَعَ نِسبةَ 10% من أموالهِ إلى المَلِك حتّى يَسمحَ له « العاشِرُ » (1)بدخولِ بلادِ القِبط.
رأى العاشرُ حُسْنَ سارةَ وجَمالَها، فأرادَ أخذَها إلى المَلِك.
غَضِبَ سيّدُنا إبراهيمُ وعَرَضَ على العاشرِ أن يَتنازَلَ عن كلِّ أملاكهِ؛ أمّا أن يَسمَحَ لهم بأخذِ سارةَ فهذا مُستحيل.
قالَ سيّدُنا إبراهيمُ للعاشرِ إنّه سيُقاتِلُ حتّى النَّفَسِ الأخيرِ دفاعاً عن شَرَفهِ وعِرضهِ.
العاشرُ أخبَرَ مَلِكَ القِبط، ومَلِكُ القِبطِ أمَرَ بإحضارِ سارةَ وإبراهيمَ.
مَلِكُ القبطِ عندما رأى سارةَ طَمعَ بها، أراد أن يَضَعَ يَدَهُ عليها.
سيّدُنا إبراهيمُ كانَ وحيداً، وكانَ حَزيناً، لهذا أدارَ وَجهَهُ حتّى لا يَرى أحداً يَلمسُ زَوجتَه.
سيّدُنا إبراهيم دعا الله أن يَحمي سارةَ من شُرورِ المَلك، الله سبحانه استجابَ دعاءه، نَصَر نبيَّه إبراهيم، فشَلّ يَدَ المَلِك.
مَلِكُ القبِط عَجَز عن لَمسِ سارةَ، عرَفَ أنّ إله إبراهيمَ منَعَهُ من ذلك، قالَ لإبراهيم:
ـ هل إلهُك الذي فَعَل بي هذا ؟!
قالَ إبراهيم:
ـ نَعَم؛ إنّ إلهي غَيُور.
المَلِكُ قال:
ـ إنّ إلهكَ لَغَيورٌ وأنتَ أيضاً لَغَيور.. أُدْعُ إلهَكَ أن يَرُدَّ لي يَدي، ولن أفعل شيئاً.
سيّدُنا إبراهيم دعا اللهَ أن يَرُدَّ على الملكِ يَدَه؛ والله سبحانه رَدَّ يدَ الملك.
الملكُ القِبطيّ كان يَنظرُ إلى إبراهيمَ وزوجتهِ باحترام، لهذا أهدى سارةَ فتاةً تَخدِمُها. كانَ اسمُ الفتاةِ هاجَر.
فلسطين
سارَ إبراهيمُ إلى أرضِ فلسطينَ، وعندما وَصَلَ إلى سَواحلِ البحرِ الميّت؛ تَركَ ابنَ خالتهِ لُوطاً في أرضِ « سَدُوم » لدعوةِ أهلِها إلى دينِ اللهِ والعملِ الصالح. أمّا هو فقد استَمرَّ في رِحلتِه إلى أن وَصلَ إلى الأرضِ التي تُدعى اليومَ بـ « مدينة الخليل » في فلسطين.
وتمرّ الأعوام.. وسيّدُنا إبراهيمُ يعيشُ في تلكَ البُقعةِ من أرضِ فلسطين.
إسماعيل
لم يَرزُقِ اللهُ سبحانه إبراهيمَ وَلَداً. لقد كانت سارةُ امرأةً عَقيماً لا تَلِد؛ لهذا فكّرتْ أن تُهدي جاريَتَها هاجرَ إلى زوجِها، من أجل أن يَتَزوّجَها وتُنجِبَ له وَلَداً.
وكانَ عُمُر سيّدِنا إبراهيمَ أكثرَ من سَبعينَ سنةً، فتَزوّجَ من هاجرَ التي أنجَبَت وَلَداً هو إسماعيل.
الله سبحانه أمرَ سيّدَنا إبراهيمَ أن يأخُذَ هاجَرَ وإسماعيلَ ويرحَلَ إلى أرضِ الحجاز.
امتَثَلَ سيّدُنا إبراهيمُ لأمرِ الله، وأخَذَ زوجَتَهُ هاجرَ وإسماعيلَ وذهَبَ باتّجاهِ الجَنوب..
قَطَع صَحاريَ واسعةً وجَرْداء، وفي كلِّ مرّةٍ كانَ سيّدُنا إبراهيمُ يَنظرُ إلى السماء فيُخبِرهُ المَلاك أنه لَم يَصِلْ بَعدُ.
وبعدَ أيامٍ وليالٍ طويلةٍ وصَلَ سيّدُنا إبراهيم إلى أرضٍ جَرداءَ خاليةٍ من الزرع.
كانَت الأرضُ عبارةً عن وادٍ قاحِل ليس فيه أشجارٌ ولا ماء.. كانَ مليئاً بالرِّمالِ والصُّخورِ وتُحيطُه الجِبالُ الجَرْداء.
هَبَط المَلاكُ وأخبرَ سيّدَنا إبراهيمَ بأنّه قد وصَل إلى الأرضِ المقدّسة، وأنّ عليه أن يَترُك هاجَرَ وإسماعيلَ ويعودَ إلى فلسطين.
سيّدُنا إبراهيم لا يَعرفُ سوى طاعةِ الله.. كان مَنظرُ هاجرَ وإسماعيلَ مُؤثِّراً.. امرأةٌ وطِفلُها لوحدهِما في هذا المكانِ القاحِل!!
وَدّعَ إبراهيم زوجتَهُ هاجَرَ وقَبّلَ ابنَهُ الرَّضيعَ إسماعيَل وذَهَب.
هاجرُ قالت لزوجِها:
ـ أتَترُكُنا لوحدِنا في هذا المكانِ المُوحِش ؟!
قالَ سيّدُنا إبراهيمُ بحزن:
ـ إنّ الله أمَرَني بذلك.
كانت هاجرُ أمرأةً مؤمنةً بالله وبرسالةِ زوجهِا إبراهيم، لهذا قالت بثِقة:
ـ إذا كان اللهُ هو الذي أمَرَكَ فإنّه لا يَنْسانا.
ذَهَب سيّدُنا إبراهيم.. عادَ إلى فلسطين، أمّا هاجَرُ وابنُها إسماعيلُ فقد ظَلاّ وحدَهُما في ذلك الوادي القاحِل (2).
إسحاق
أصبحَ سيّدُنا إبراهيم شيخاً كبيراً، وأصبحت زوجتُه سارةُ عَجوزاً..
كانَ سيّدنُا إبراهيمُ لا يُحبُّ أن يتناولَ طعامَهُ لوحده، كانَ يُحبُّ الضُّيوفَ، وكان يَخدِمُهم بنفسِه ويُقدّم لهم الطعامَ الطيِّب.
ذاتَ يومٍ جاءه ضُيوفٌ.. كانوا ثَلاثةَ أشخاص، سَلَّموا على إبراهيمَ بأدب.
سيّدُنا إبراهيمُ أسرَعَ إلى قَطيعهِ وجاء بخَروفٍ سَمينٍ فذَبَحُه وصَنَعَ لهم طَعاماً طيّباً، وهنا حَدَث أمرٌ عجيب! رأى سيّدُنا إبراهيم ضيوفَه لا يَتناولونَ الطعام!
شَعرَ بالقلق، قال له الضيوف:
ـ لا تَخَف يا إبراهيم.. إننا رُسُلِ الله إلى أرضِ سَدُوم.
نحنُ ملائكةٌ أرسَلَنا اللهُ لمعاقبةِ أهل سَدوم.
شَعَرَ سيّدُنا إبراهيمُ بالطمأنينة، ولكنّه فكّرَ بمصيرِ أهلِ سَدُوم، فراحَ يُجادِلُ الملائكةَ قائلاً لهم:
ـ إنّ فيها لُوطاً.
الملائكةُ قالوا:
ـ نَحنُ أعلَمُ بِمَن فيها.. إنّ الله أمَرَنا أن نُخربَ تلكَ القَريةَ ونَقْضيَ على أهلِها (3) باستثناءِ لوطٍ وبَناتهِ فقط.
كان سيّدُنا إبراهيمُ يُحبّ الهدايةَ للناسِ، فأرادَ أن يَستَمهلَ الملائكة.. ولكنّ الملائكةَ رُسُلُ الله، وقد جاءوا لتنفيذِ مشيئةِ اللهِ وإرادتهِ.. إن أهل سَدُوم كفّارٌ وهم ما يزالون، يَعملونَ المُنكَراتِ ويَقطعونَ الطرَّيقَ على المسافرينَ ويُؤذونَ نبيّهم لوطاً عليه السّلام.
لهذا قالوا لإبراهيم:
ـ أعرِضْ عن هذا يا إبراهيمُ، لقد جاءَ أمرُ ربِّك.
سيّدُنا إبراهيمُ فكّر في نفسهِ: لماذا جاء الملائكةُ إلى هنا ؟
الملائكةُ بشّروا سيّدَنا إبراهيمَ بولدٍ جديدٍ من زوجتهِ العجوزِ سارة.
سَمِعتْ سارةُ بُشرى الملائكة فتعجّبت وقالت:
ـ إنّ هذا لَشيءٌ عَجيب.. كيف ألِدُ وأنا امرأةٌ عجوزٌ عَقيمٌ وهذا زوجي شَيخاً ؟!
الملائكةُ قالوا:
ـ أتَعجَبينَ مِن أمرِ الله ؟! رحمةُ اللهِ وبَرَكاتُه علَيكُم أهلَ البيتِ إنّه حَميدٌ مَجيد.
فَرِحَت سارةُ وفَرحَ سيّدُنا إبراهيمُ، ولكنّه كانَ حزيناً من أجل قومِ لوط أراد أن يدفَع عنهم غضبَ الله.. ولكنّ الملائكةَ أخبَروه أن الله سبحانه قد أنزلَ غضبَه عليهم بسببِ فسادِهم وعنادِهم وإيذائهم لنبيّهم لوط.
غادَرَ الملائكةُ منزلَ سيّدِنا إبراهيمَ، ذَهبوا لتنفيذِ مُهمّتهم في أرضِ سَدُوم.
بناءُ البَيت
ذَهَب إبراهيمُ إلى أرض الحجازِ لزيارةِ ابنهِ إسماعيل..
كانَ إسماعيلُ قد أصبَح فتًى، وكانَ يعيشُ في أرضِ الحجازِ مع قبيلةٍ جُرْهُم العربيّة.
وهناكَ بنى سيّدُنا إبراهيمُ وإسماعيلُ بيتَ اللهِ ليكونَ رَمزاً للتوحيدِ في العالم.
فكانت الكعبةُ أوّلَ بيتٍ وُضِعَ للناسِ بأمرِ اللهِ سبحانه، فيهِ آياتٌ بَيّناتٌ مَقامُ إبراهِيم ومَن دَخَلَهُ كانَ آمِناً.
أكمَلَ سيّدُنا إبراهيمُ وإسماعيلُ بناءَ البيتِ، وقالا:
ـ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا إنّكَ أنتَ السَّميعُ العَليمُ.
لقد اختارَ اللهُ سبحانه أرضاً قاحلةً جَرداءَ لِبناءِ بَيتِه.
وعندما اكتمَلَ البناءُ انزلَ الله سبحانه الحَجَرَ الأسوَدَ من الجنّةِ. ومن ذلك اليومِ أصبَحَت الكعبةُ رَمَزاً للتوحيد.
الامتحانُ الأخير
ويُؤدّي سيّدُنا إبراهيمُ مَناسِكَ الحَجّ مع ابنهِ إسماعيل، وعندما وصلا إلى السَّعي بين جَبَلِ « الصَّفا » وجَبَلِ « المَرْوَة » تَذكّر سيّدُنا إبراهيمُ عذاباتِ زوجتهِ هاجَر، وهي تركضُ بين الجَبلَين بَحثاً عن الماءِ لابنِها إسماعيل، وكيف نَبَعت المياهُ العَذبةُ لابنهِ الرَّضيع.
كانَ سيّدُنا إبراهيمُ يَتذّكر كلَّ ذلك وهو يَشعُرُ بالحزنِ. وتذكّر الرؤيا التي رآها قبلَ أيام.. رأى نفسَه يَذبَحُ ابنَهُ ويُقدّمُه قُرباناً إلى الله سبحانه.. إنّ رؤيا الأنبياءِ حقّ.
ومعناها أنّ الله يأمُره أن يُضَحّي بابنهِ إسماعيل لكي يَتِمَّ بذلك حَجُّه.
ولكنْ هل يَقبَلُ إسماعيل ؟ هل يُقدِّمُ نَفسَهُ قُرباناً ؟ كان سيّدُنا إبراهيمُ حزيناً من أجل ذلك.. لهذا قالَ إسماعيلُ لوالده:
ـ أراكَ حَزيناً يا أبي!!
التَفَتَ إبراهيمُ إلى ابنهِ إسماعيل.. الفتى البارِّ.. التقيِّ الطيِّب.. وقال له:
ـ نَعَم، يا وَلَدي الحبيب.. لقد رَأيتُ في المَنامِ أنّي أذبَحُكَ.. وأنتَ تَعرِفُ معنى ذلك..
ـ تَذبَحُني ؟!
ـ نَعَم يا ولدي، فما هو رأيُك ؟!
لم يكن هناكَ وقتٌ للتفكير.. إنّ اللهَ يأمرُ رسولَهُ إبراهيمَ أن يُقدِّم ابنَهُ إسماعيلَ قُرباناً..
اللهُ سبحانه يُريدُ امتحانَ إبراهيمَ مرّةً أخرى.. أن يَكشِفَ مدى اخلاصِه وتَسليمِه لله.. لهذا قالَ إسماعيلُ الفتى المؤمن:
ـ إفعَلْ ذلك يا والدي.. سوفَ أصبِرُ على آلامِ الذَّبحِ يا أبي ما دامَ اللهُ يُريدُ ذلك.
كانَ سيّدُنا إبراهيمُ لا يُحبّ أحداً مِثلما يُحبُّ وَلَدَه إسماعيل؛ ولكنّه كانَ يُحبّ اللهَ أكثرَ وأكثر.. لهذا تَبرّأ سيدُنا إبراهيمُ من جَدِّه آزرَ.. كانَ يُحبُّه كثيراً، كانَ يُخاطبُه قائلاً: يا أبي، ولكنْ عندما كفَرَ آزرُ بالله تَبرّأ منه سيّدُنا إبراهيم.
إنّ سيّدَنا إبراهيمَ يُحبُّ ولدَهُ إسماعيلَ الفتى البارَّ المؤمنَ، ولكنّه يُحبُّ اللهَ أكثرَ وهو يُطيعُ أوامره.
قَبّلَ سيّدُنا إبراهيم ولدَه إسماعيل.. كان سيّدُنا إبراهيمُ قد أحضَرَ معه سِكّيناً.. إسماعيلُ كان مُستَسلماً لأمرِ الله، كانَ شُجاعاً. استقبلَ المَوتَ ذَبحاً بكلِّ هُدوء.. شيءٌ واحد أقلَقَه: إن آلامَ الذَّبحِ قد تَجعَلُه يُدافعُ ويُقاومُ، وسوف يُؤذي والدَه ذلك. إنّ والدَهُ شيخٌ وقد لا يَتحمّل قلبُه.
لهذا قالَ لوالِده:
ـ أرجوكَ يا والدي أن تُحكِم وَثاقي جيّداً، وأن تُسرِع في الذَّبح.
بكى سيّدُنا إبراهيمُ من أجلِ ولدهِ، وقَبّلَهُ لِيُودّعَهُ الوَداعَ الأخير..
تَهيّأ إسماعيلُ لِلَحظةِ الذَّبح، وأمسَكَ سيّدُنا إبراهيمُ بالسكِّين.. ورَفَع إسماعيلُ رأسَهُ إلى السماء، وظَهَرت رَقَبتُه البيضاءُ الناصعةُ متألّقةً تحت أشعّةِ الشمس، وفي تلك اللحظاتِ المُثيرة حَدَثَ شيءٌ مُدهِش!
سَمِعَ إبراهيمُ نِداءً سَماويّاً يقول:
ـ يا إبراهيمُ قَد صَدَّقْتَ الرُّؤيا.. إنّ الله يَأمُرُكَ أن تَفْديَ إسماعيلَ بهذا الكَبْش.
ورأى سيّدُنا إبراهيمُ كَبْشاً يَهبِطُ مِن فوقِ الجَبَل.
وقَدَّم إبراهيمُ الكبشَ فذبَحَهُ قُرباناً، وأتمَ سيّدُنا إبراهيمُ مع ابنهِ إسماعيلَ مناسكَ الحجّ.
ونحنُ اليومَ عندما نَحلِقُ شُعورَنا وعندما نَغتَسِلُ من الأدران، وعندما نُقلّمُ أظافرَنا، وعندما نَخْتَتِنُ، فإنّنا نَقْتَدي بأبينا إبراهيمَ الخليل..
فسيّدُنا إبراهيمُ هو الذي عَلَّمنا ذلك.. وعَلَّمنا أيضاً أن نُوحِّد الله..
وعندما نرَى الأديانَ الثلاثةَ من اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام، وأتباعها يَعتقدونَ باللهِ فإنّ ذلك كلّه من بركاتِ سيّدنا إبراهيم.. لأنّ الله سبحانه اختارَ سيّدَنا إبراهيمَ نبيّاً ورسولاً ثمّ جعَلَه إماماً.. وجَعَل في ذريّتهِ النبوّةَ والإمامةَ، فسيدُنا موسى عليه السّلام من ذريّةِ إسحاقَ ابنِ إبراهيم عليه السّلام، وكذلك سيّدُنا عيسى بن مريم عليه السّلام مِن ذرّيةِ إسحاق عليه السّلام، وسيّدُنا محمدٌ صلّى الله عليه وآله من ذرّيّةِ إسماعيلَ ابن إبراهيم، والأئمّة من أهلِ البيتِ عليهم السّلام هم أيضاً من ذريّةِ إسماعيل عليه السّلام.
لهذا نقولُ في بعض الأحيان:
« اللهمّ صلِّ على محمدٍ وآلِ محمدٍ كما صَلَّيتَ على إبراهيمَ وآلِ إبراهيمَ إنّك حَميدٌ مَجيدٌ ».
الخليل
ولأنّ الله سبحانه رأى إبراهيمَ مُخلِصاً ورَآهُ مُطيعاً مُسَلّماً أمرَهُ لله، لا يخافُ من أحدٍ سواه.. من أجلِ هذا اتّخذَ اللهُ إبراهيمَ خليلاً.
وعُرِف بإبراهيم خليل الرحمن..
عاشَ سيّدنا إبراهيم طويلاً ربّما أكثرَ من مئةٍ وعشرينَ سنة، أصبَحَ شَيخاً طاعِناً في السنّ.
لم يَعُدْ بمقدورهِ الذَّهابُ إلى الحِجازِ لحجِّ بيتِ اللهِ ولقاءِ ابنهِ إسماعيل..
من أجلِ ذلك ذَهَبَ ابنُه إسماعيلُ إلى فلسطينَ لزيارةِ أبيه خليلِ الرحمن..
وخلالَ تلك الفترةِ مَرِضَ سيّدُنا إبراهيمُ، داهَمَتْهُ الشَّيخوخَةُ بضَعفِها وعَجزِها، وآنَ لإبراهيمَ أن يُغمِضَ عَينَيهِ ويَستريحَ بعد عُمرٍ طويلٍ قضاه في الجِهاد والدعوةِ إلى الله سبحانه. وهكذا تُوفّي سيّدُنا إبراهيمُ، ورَحَلَ إلى اللهِ خليلهِ ومَعبودِه.
إلتَحَق بالرَّفيقِ الأعلى بعدما أخَذَ على وَلَديهِ إسماعيلَ وإسحاقَ أن لا يَتوانَيا في دعوةِ البشريةِ إلى عبادةِ اللهِ الواحِد الأحد.
وندعو الله سبحانه أن يُمكِّنَ المسلمينَ المُجاهدينَ من تحريرِ أرضِ فلسطين، من أجل أن تَتحرَّرَ القُدسُ والمسجدُ الأقصى، وعندَها يُمكننا أن نَزورَ ضريحَ أبينا إبراهيمَ في مدينةِ الخليل.
اللّهم صلِّ على محمّدٍ وآلِ محمّدٍ كما صَلَّيتَ على إبراهيمَ وآلِ إبراهيم إنّكَ حَميدٌ مَجيدٌ