رجال التوحيد في تيار الحياة

 
 
 

أبونا آدم وأُمّنا حوّاء

 
 
 
في البِداية
قَبلَ ملايينِ السِّنين خَلَقَ اللهُ العالَم.. الكواكبَ والنجومَ والسماواتِ.. وخَلقَ اللهُ الملائكةَ مِن نور.. وخَلقَ الجِنَّ من نار.. وخَلقَ اللهُ الأرض.
لَم تَكُن الأرضُ مِثلَما هي علَيها اليَوم.. كانت مَليئةً بالبِحار، وكانت الأمواجُ ثائرة، والرِّياحُ تَعصِفُ بشدّة.. والبَراكينُ مُشتَعلة، والنَّيازِكُ الضَّخمةُ والشُّهُبُ تُهاجِمُ الأرض.
ولَم تكن هناك من حياةٍ على الأرض.. لا في البحارِ ولا في البَراري.
وقبلَ مَلايينِ السِّنين، ظَهَرت في البحرِ أنواعٌ صغيرةٌ من الأسماك، وظَهَرت في البَرِّ نباتاتٌ بسيطة.
ثُمّ تَطوَّرت الحياةُ شيئاً فشيئاً؛ وظَهَرت على سطحِ الأرض حَيواناتٌ كالزَّواحِف، والبَرْمائيّات. وظَهَرت الدِّيناصُورات بأشكالِها المُتعدّدةِ وأنواعِها المُختلفة.
وبينَ فترةٍ وأُخرى كانت الثُّلوجُ تُغَطّي الأرضَ، فتَموتُ النباتاتُ وتَموتُ الحَيواناتُ وتَنقَرِض، وتَظهَرُ بَدَلها أنواعٌ جديدة.. وبينَ فترةٍ وأُخرى تَذوبُ الثُّلوجُ وتَعودُ الحياةُ في الأرضِ مرّةً أُخرى.
في تلك الأزمنةِ السَّحيقة.. وما تَزالُ الأرضُ لَم تَهدأ بَعدُ مِن البَراكينِ والزَّلازلِ.. والعَواصفِ العاتية والأمواجِ الثائرة.. ولَم تَكُن الثُّلوجُ قد ذابَت بَعدُ.. في تلكَ الأزمنةِ البعيدةِ أخذَ اللهُ من الأرضِ تُراباً.. مِن المُرتَفعاتِ، ومن السُّهولِ، ومن الأرض السَّبْخةِ المالِحة، ومن الأرضِ الخِصبةِ العَذبة.. مُزِجَت التُّربةُ بالماءِ، وأصبَحت طِيناً مُتماسِكَ الجُزئيّات.
خَلَق اللهُ سبحانه من ذلك الطِّينِ ما يُشبِهُ هَيئةَ الإنسان؛ رأسٌ وعَيْنانِ، ولسانٌ وشَفَتانِ، وأنفٌ وأُذُنانِ، وقلبٌ ويَدانِ، وصَدرٌ وقَدَمان.
تَبَخّر الماءُ وجَمَد التِّمثالُ البَشَري، أصبَحَ الطينُ حَجَراً صَلْداً يابِساً إذا هَبّت الرِّيحُ يُسمَعُ منه صَوتٌ يَنِمُّ عن تَماسُكِه.
وعلى هذهِ الحالةِ.. ظَلَّ التِّمثالُ نائماً إلى أمَدٍ طويلٍ لا يَعَلمُ مَداهُ إلاّ اللهُ سبحانه.

الأرض
وفي تلك الفَترةِ من الزمنِ.. هَدَأتِ الأرضُ، هَدَأ الأمواجُ في البحارِ، وهَدأتِ العَواصِفُ، وانطَفأ كثيرٌ مِن البَراكين...
ونَمَت الغاباتُ.. أصبحت كثيفةً، وامتَلأت بالحيواناتِ والطُّيور، وتَفَجّرت يَنابيعُ المِياهِ العَذبة، وجَرَت الأنهار.
أمّا المَناطقُ التي انعَدَمَ فيها الماءُ فقد كانَتِ الرِّياحُ الطَّيِّبةُ تَحمِلُ لها الغيوم، وهناك تَهطِلُ الأمطارُ لِتُحيي الصَّحراءَ الخاليةَ من الأنهارِ والنَّبات.
وعندما يُسافِرُ المَرءُ في الفضاءِ يُشاهِدُ الأرضَ مِن بَعيدٍ كُرةً تَدورُ في الفضاءِ حولَ الشمسِ فتَنشَأ الفُصول.
صَيفٌ يُعقِبهُ خَريف، وخَريفٌ يُعقِبهُ شِتاء، وبَعد الشتاءِ يأتي الربيع.
فتَزادادُ الأرضُ خُضرةً، وتُصبِحُ النَّباتاتُ والغاباتُ أكثَرَ بهجةً.
وتَتَدفَّقُ الأنهارُ بالمِياهِ العَذبة، وتَفورُ الينابيعُ بالمِياهِ الصافيةِ الباردة.
وتَدورُ الأرضُ حولَ نفسِها، فيَنشأُ الليلُ والنهار.
في النهارِ.. تَستَيقِظُ الطُّيورُ فَتَطيرُ باحِثَةً عن رِزقِها، وتَستَيقظُ الحيواناتُ تَبحَثُ عن طَعامِها.
الغِزْلان تَركُضُ في الغابات، والوُعُولُ فوقَ سُفوحِ الجِبال، والفَراشات تَدورُ في الحَدائقِ تَبحَثُ عن الأزهار والرَّحيق، والحَيوانات المُفتَرِسَةُ تَزأَرُ في الغابات.
كلُّ شيءٍ في الأرضِ يَنمو ويَتَكاثَرُ، فالأرضُ تَمتلئ بالحياةِ والبهجة.
الأشجارُ تَحمِلُ الثِّمار، والخِرافُ والماعِزُ تأوي إلى الكُهوفِ تَبحَثُ عن مأوى يَحميها مِن الحيواناتِ الكاسِرة.

 
 
كلُّ شيءٍ يَمضي في طَريقهِ كما خَلَقَهُ اللهُ سبحانه وتعالى.
أصبَحَتِ الأرضُ جَميلةً جدّاً... أصبَحَت مُلَوّنة.. زُرَقةُ البِحار.. وخُضرَةُ الغاباتِ والتِّلالِ التي تَكْسُوها الأعشاب، وسُمرَةُ الصَّحاري.. وبَياضُ الثُّلوج.. وأشِعّةُ الشمسِ الحَمراءِ في الشُّروق.
امتَلأتِ الأرضُ بالحَياة.. طُيورٌ وحَيواناتٌ، وغاباتٌ ونَباتاتٌ وأزهارٌ وفَراشات... امّا الإنسانُ فلَم يَكُن له وجودٌ بَعدُ.

آدمُ.. الإنسانُ الأوّل
وفي لَحظةٍ من لَحظاتِ الرَّحمةِ واللُّطفِ الإلهيّ؛ نَفَخَ اللهُ في تِمثالِ الصَّلْصالِ مِن رُوحهِ، عَطَسَ وقال: الحمدُ لله.
نَهَضَ آدمُ.. دَبَّتْ فيه الرُّوحُ وأصبح بَشَراً سَوِيّاً، يَتَنفّسُ ويُجِيلُ نَظَرَهُ.. أصبَحَ يُفكّرُ ويَتأمّل.. يُحرِّكُ يَدَيهِ ويَمشي.. يَعرِفُ الجَميلَ ويُدرِكُ القَبيح.. يَعرِفُ الحَقَّ ويُدرِكُ الباطلَ.. الخيرَ والشَّرَ؛ السعادةَ والشَّقاء.
أمَرَ اللهُ المَلائكةَ أن تَسجُدَ لآدم.. أن تَسجُدَ لِما خَلَقَهُ الله.
سَجَدَ المَلائكةُ جميعاً..
المَلائكةُ لا تَعرِفُ شيئاً سِوى طاعةِ الله.. إنّها تُسبِّحُ اللهَ دائماً... خاشعةٌ للهِ في كلِّ وقت... سَجَدَت للإنسانِ؛ لأنّ الله اختارَهُ خَليفةً له في الأرض.
لأنّ اللهَ جَعَلَهُ خليفةً.. إنّه أرفَعُ مَنزلةً مِن الملائكة.
ولكنْ هُناكَ مَخلوقٌ آخَرُ لَم يَسجُدْ!! كانَ هناك جِنيٌّ خَلَقَهُ اللهُ قبلَ أن يَخلُقَ أبانا آدمَ بستّةِ آلافِ عام.. لا يَعلَمُ أحدٌ أهذِه الأعوامُ كانت مِن أعوامِ الأرضِ أم مِن أعوامِ كواكبَ أخرى لا نَعرِفُها.
الجِنُّ خَلَقَهُ اللهُ مِن النار.. إبليسُ لَم يسَجُد، لآدم.. لَم يُطِع اللهَ. قالَ في نفسِه: إنّه أفضَلُ مِن آدم؛ لأنّ أصلَهُ مِن النار.. تَكبَّرَ إبليس.. واستَنكَفَ أن يَسجُدَ لآدمَ المَخلوقِ من الطِّين..
كانَ الملائكةُ جميعاً ساجِدين.. الملائكةُ جميعاً يُطيعونَ الله، يُسبِّحونَ اسمَهُ ويُقدِّسونَ ذاتَه.. أمّا إبليسُ فقد كانَ مِن الجِنِّ فعَصى أمرَ اللهِ ولَم يَسجُدْ لآدم.
قالَ اللهُ سبحانه: لماذا لا تَسجُدُ لآدمَ يا إبليس ؟
قال إبليسُ: أنا أفضَلُ منه.. لَقَد خَلَقتَني من النار، أمّا آدمُ فمَخلوقٌ من الطين.. النارُ أفضَلُ من الطين.
طَرَدَ اللهُ إبليسَ المُتَكبِّرَ مِن حَضرَتهِ.. طَرَدَهُ من رَحمَتِه.. ومِن ذلكَ الوقتِ حَقَدَ إبليسُ على آدم.
حَسَدَهُ أوّلاً ثم حَقَدَ عليه.. إبليسُ مَخلوقٌ مُتكبّرٌ حَسُودٌ وحاقِد.. لا يُحِبُّ أحَداً سِوى نفسِه.
أصبَحَ شُغلُه وهَمُّه كيفَ يَقْضي على آدم.. كيف يَغُرُّهُ لِيُضلّه.
طَرَدَ الله إبليسَ مِن رحمتِه.. قالَ له: أُخْرُجْ فإنّكَ رَجيم.. وإنّ عليكَ لَعنتي إلى يومِ الدِّين.
قال إبليسُ: أمهِلْني يا رَبِّ إلى يومِ الدِّين.. قالَ اللهُ سبحانه: إنّكَ مِن المُنظَرينَ إلى يومِ الدين.. إلى وقتٍ مَعلوم.
قالَ إبليسُ: رَبِّ بِما أغَوَيْتَني لأقْعُدَنَّ لَهمُ صِراطَكَ المُستقيمَ لأُغويَنَّهُم أجمعين..
كَمْ هُو مَلعونٌ إبليس.. كَم هو مُكابِرٌ وكَذّاب.. إنّه يَتَّهِمُ اللهَ سبحانه بأنّه هو الذي أغواه.. لَم يُلْقِ اللَّومَ على نفسِه لِمعصيتِه.. لم يَقُل إنّه حَسَدَ آدمَ وحَقَدَ عليه، وإنّه تَكبَّر فلم يَسجُد ولَم يُطِعِ الله!
وهكذا كَفَرَ إبليس.. استَكبَرَ ثمّ كفَرَ.. ظَنَّ نفسَهُ أفضَلَ مِن آدمَ لأنّه مَخلوقٌ من نارٍ وآدمُ أصلُه طينٌ وتُراب.
إبليسُ أنانيّ.. نَسِيَ أن الله خَلَقَهُ وهو يأمرُهُ، وعليه أن يُطيعَ الله..

حَوّاء
خَلَق الله آدمَ وَحيداً.. ثُمّ خَلَق مِن أجلهِ حَوّاء. فَرِحَ آدمُ بزوجهِ، وهي أيضاً فَرِحَت بِلقائه.
أسكَنَ اللهُ سبحانه أبانا آدمَ وأُمَّنا حوّاءَ الجنّة.
الجَنّةُ مكانٌ جَميل.. جَميلٌ جدّاً.. أنهارٌ كثيرة.. وأشجارٌ خَضراءُ خالدة.
رَبيعٌ دائم.. ليس في الجنّةِ حَرٌّ ولا بَرد.. نَفَحاتٌ طيّبة.
عندما يَملأُ المرءُ صَدرَهُ منها يَشعُرُ بالسعادة..
قالَ اللهُ ربُّنا لآدم: أُسكُنْ أنتَ وزَوجُكَ الجنّةَ وكُلا منها حَيثُ شِئتُما.. أُسكُنْ فيها حيثُ تُحِبُّ، وكُلْ فيها ما تُحِبّ..
ستَكونُ سعيداً فيها، فليسَ في الجنّةِ تَعَبٌ ولا جُوعٌ ولا عُرْي..
ولكنْ إيّاكَ أن تَقتَرِبَ من هذهِ الشجرة.. إيّاكَ أن تَسمَعَ كلامَ إبليسَ، فيَخدَعَك. إنّه عَدوٌّ لك ولزوجِك.. إنّه يَحسُدُكَ يا آدم، يُضمِرُ لكَ الشَّرّ.
إنطَلَقَ آدمُ وزوجُه حوّاءُ في الجنّةِ يَنعُمانِ بظِلالِها، ويأكُلانِ من ثِمارِها.. كانَ آدمُ سعيداً وكانت حوّاءُ سعيدة..
كانا سَعيدَين جدّاً.. لقد خَلَقَهُما الله بيدِه.. ورَزَقَهُما من كلِّ شيء، وكانت الملائكةُ تُحبُّهما، لأنّ الله خَلَقَهُما ويُحبّهما..
آدمُ وحوّاءُ يَنطَلقانِ في الجنّةِ هنا وهناك، يَقتَطِفانِ من ثِمارها ويَجلِسانِ على شَواطئ أنهارِها.
شَواطئُ ساحِرَةٌ جَميلةٌ مِن الياقوتِ والعَقيقِ، والمياهُ الصافيةُ العذبةُ تَغسِلُ أقدامَهُما.. وهناك أنهارٌ من عَسَلٍ طيّبٍ ولذيذ، وأنهارٌ من لَبَن، وطُيورٌ وزُهور.. لا حُدودَ لسعادةِ آدمَ وحوّاءَ. كلُّ شيءٍ في الجنّةِ لهما.. أشجارُها وثِمارُها..
كانا يأكُلانِ من كلِّ الثِّمار.. ثِمارٌ مُختلفةُ الشَّكلِ واللَّونِ والرائِحةِ، ولكنّها جيمعاً شَهيّة..
وفي كلِّ مرّةٍ كانا يُصادِفانِ شَجَرةً في وسطِ الجنّة.. شجرةً جميلةَ المنظرِ تَتَدلّى ثمارُها.. كانا يَنظُرانِ إليها فقط.. لأنّ الله نَهاهُما عن الاقتِرابِ منها وتَناوُلِ ثِمارِها.

إبليسُ عدوُّ الإنسان
طُرِدَ إبليسُ من صُفوف الملائكة.. لقد ظَهَرت حقيقتُه في أولِ امتحان.. ظَهَرت أنانيّتُه.. وتَكبُّره.. أصبَحَ مَلعوناً رَجيماً.. لم يَعُد له مكانٌ بين الملائكة..
إبليسُ يَمتلئُ حِقداً وحَسَداً لآدمَ وزوجهِ.. أصبَحَ شُغلُه الشاغلُ كيفَ يَخدَعُ آدمَ وحوّاءَ ويُخرِجُهما من الجنّة!
قالَ في نفسِه: أنا أعرِفُ كيفَ أخدَعُهُما. أنا أعرفُ أنّهما سَيُصغِيانِ إلى وَسْوَسَتي.. سَأدعُوهُما لأن يأكُلا من تلكَ الشجرة.. وعندَها سَيَشْقى آدم.. سيُصبحُ شَقيّاً مِثلي.. سوفَ يَطرُدُه الله من الجنّة؛ حَوّاءُ هي الأخرى ستَشْقى.

الشجرة
جاءَ إبليسُ إلى آدَمَ وحَوّاء.. جاءَ لِيُوَسْوِسَ لَهُما.. لِيَخدَعَهُما، قالَ لَهُما: هَل رأيتُما أشجارَ الجنّةِ كلَّها ؟
قال آدمُ: نَعَم، لقد رَأيناها جَميعاً.. وأكَلنا ثِمارَها.
قال إبليسُ: ما فائدةُ ذلك.. وأنتُما لم تَأكُلا من شجرةِ الخُلْد.. إنّها شَجَرةُ المُلكِ الدائمِ والحياةِ الخالدة.. عندما تأكُلانِ من ثِمارِها تُصبِحانِ مَلَكَينِ في الجنّة..
قالت حَوّاءُ: تَعالَ لِنأكُلَ من شجرةِ الخُلود.
قالَ آدمُ: لقد نَهانا ربُّنا عن الاقترابِ منها..
قالَ إبليسُ وهو يَخدَعُهُما: لَو لَم تَكُن شجَرةَ الخُلودِ لَما نَهاكُما عنها.. لَو لَم تُصبِحا مَلَكَينِ لَما قالَ لَكُما ربُّكما: لا تَقْرَبا هذهِ الشَّجرةَ. إنني أنصَحُكُما أن تأكُلاها.. وعندها سوف تَصيرا مَلَكين ولن تَموتا أبداً.. ستَصيرا خالدَينِ تَنعُمانِ في هذهِ الجنّةِ إلى الأبد.
قالَ آدمُ لزوجهِ: كيف أعصي رَبِّي ؟!.. لا.. لا.
قالَ إبليسُ: هَيّا لأدُلُّكما عليها، إنها هناكَ في وسطِ الجنّةِ.
ذَهَب إبليسُ وتَبِعَهُ آدمُ وحوّاء.. كانَ إبليسُ يَمشي مُتكبّراً مَغروراً.
قالَ وهو يُشيرُ إلى الشجرة: هذهِ هي الشجرة.. أُنظُرا كَم هي جميلة! انظُرا إلى ثمارها كم هي شَهيّة!
نَظَرَت حوّاءُ.. ونَظَرَ آدمُ.. حَقّاً إنّها جَذّابة.. شهيّةُ الثِّمار.. شَجَرةٌ تُشبِهُ شجرةَ القَمح.. ولكنْ فيها ثِمارٌ مختلفةٌ وتُفّاح وعِنَب..
قالَ إبليسُ: لماذا لا تَأكُلانِ منها.. أُقسِمُ لَكُما بأني ناصِح.. أنصَحُكما أن تَتَناوَلا ثِمارَها..
أقسَمَ إبليسُ أمامَ آدمَ وحَوّاءَ أنّه يُريدُ لَهُما الخيرَ والخُلود!
وفي تلكَ اللحظةِ الرَّهيبةِ.. نَسِيَ آدَمُ ربَّهُ.. نَسِيَ المِيثاقَ الذي أخَذَهُ اللهُ عليه.. فَكّر في نفسِه أنّه يَستطيعُ أن يَبقى ذاكراً للهِ وفي نفسِ الوقتِ يَعيشُ حياةَ الخُلود..
في تلك اللحظاتِ المُثيرة.. مَدَّت حَوّاءُ يَدَها واقتَطَفَت من ثمارِ الشجرةِ.. أكَلَت منها.. إنها حَقّاً شهيّة. أعطَتْ آدمَ منها.. نَسِيَ آدمُ المِيثاقَ فأكَلَ منها..
وهنا فَرّ إبليس.. راحَ يُقَهقِهُ بصوتٍ شَيطاني.. لقد نَجَحَ في إغواءِ آدمَ وحَوّاء.

الهُبوط على الأرض
وفي تلك اللحظةِ التي أكَلَ فيها آدمُ وحوّاءُ من ثمارِ الشجرةِ.. حَدَثَ شيءٌ عجيب.. تَساقَطَت عنهما ثِيابُ الجنّةِ، أصبَحا عريانَين.. بَدَت لَهُما سَوْآتُهما..
كانت هناكَ شجرةُ تينٍ وشجرةُ مَوزٍ عريضةُ الأوراق، لَجأ إليها آدمُ وحَوّاء..
كانا يَشعُرانِ بالخَجَلِ مِن نَفسَيهِما.. راحا يَخصِفانِ مِن وَرَقِ التِّينِ والمَوزِ، لِيَصنَعا لَهُما ثوباً يَستُرُ ما بدا من سَوآتِهما.
شَعرا بالنَّدمِ والخَوفِ والخَجَل.. لقد ارتَكَبا المَعصية.. لم يَسمَعا كلامَ الله، سَمِعا كلامَ الشيطان.. الذي فَرّ بعيداً وتَرَكهما لوحدهما..
سَمِعَ آدمُ وحوّاءُ صَوتاً يُناديهما.. كانَ صوتُ اللهِ سبحانه، قال: ألَم أنْهَكُما عَن هذهِ الشجرة ؟! ألَم أقُلْ لَكُما إنّ الشيطانَ عَدوٌّ لَكُما فلا يَخْدَعْكُما ؟!
بكى آدمُ بسببِ خطيئته.. وبَكَت حوّاء.. لَيتَهُما لم يَسمَعا كلامَ الشيطان..
قالا وهما يَركعانِ لله في نَدَم: نَتُوبُ إليكَ يا ربَّنا.. فاقبَلْ تَوبتَنا.. تجاوَزْ عن خَطيئتِنا، ربَّنا ظَلَمْنا أنفُسَنا وإنْ لَم تَغفِرْ لنَا وتَرحَمْنا لَنكونَنَّ مِن الخاسِرين.
كانَ آدمُ قد تَعلّم من قبلُ أن المغفرةَ والتوبةَ والندمَ تَغسِلُ الخَطايا.. لهذا تاب.. وأنابَ إلى الله..
اللهُ ربّنا رحيمٌ بمخلوقاتهِ فتابَ عليه، ولكنّ مَن يأكُل من هذهِ الشجرة ومَن يعصي الله؛ عليه أن يَخرُجَ من الجنّةِ، عليه أن يَتطَهَّر من خَطيئتِه..
قالَ اللهُ سبحانه: اهبِطوا إلى الأرض.. اهبِطا أنتما وإبليسُ إلى الأرض.. ستَستَمرّ العداوةُ بينكما وبينه.. سوف يَستمرّ في خداعهِ لكما.. ولكنّ مَن يَتّبعُ أمري.. مَن يتّبعُ كلماتي فسأُعيده إلى الجنّة.. أمّا من يُكذّب ويَكفُر فسيكون مَصيرُه مثلَ مصيرِ الشيطان.
قالَ الله سبحانه: اهبِطُوا بعضُكم لبعضٍ عَدُوّ، ولَكُم في الأرضِ مُستقرٌّ ومَتاعٌ إلى حين.. وفيها تَحْيَونَ وفيها تَموتونَ ومنها تُخرَجون.
اهبِطا منها جميعاً، فإمّا يَأتِينَّكُم مني هُدىً فمَن تَبِعَ هُدايَ فلا يَضِلُّ ولا يَشْقى، ومَن أعرَضَ عن ذِكري، فإنّ له مَعيشةً ضَنْكاً ونَحشُرهُ يوم القيامةِ أعمى.
أصبَحَ آدمُ وحوّاءُ مُؤهَّلَينِ للحياةِ في كوكبِ الأرض.. لقد اكتَشَفَ آدمُ سَوءاتهِ.. أصبَح جاهزاً لأن يكونَ خليفةَ الله في الأرضِ يُعمّرها.. ويَسكنُها.. ولا يُفسِدُ فيها.
لهذا سَجَد له الملائكة.. تَصوَّرت الملائكةُ أن آدمُ سوف يُفسِد في الأرض ويَسفِكُ الدِّماء.. ولكنّ آدم يَعرِفُ أشياءَ لا تَعرفها الملائكة، يَعرِفُ الأسماءَ كُلَّها، يعرف حقائق مهمّة. الملائكةُ لا تَعرِفُ الحرّية والإرادة، ولا تَعرِفُ التَّوبة.. لا تَعرفُ الخَطيبئة. لا تَعرفُ أن الذي يُخطئ يَعرفُ كيف يُصحِّحُ خطأه ويَتُوب.
مِن أجلِ هذا خَلَقَ اللهُ آدمَ ليكونَ له خليفةً في الأرض.
فجأةً وبقدرةِ الله المُطلَقة.. هبَطَ آدمُ وحوّاء.. وهَبَط إبليس.
كلُّ واحدٍ منهم هَبَط في مكانٍ من الأرض.
هَبَط آدمُ فوق قمّةِ جبلٍ في جزيرةِ سَرندِيب (1)، وهَبَطت حوّاء فوقَ جبلِ المَرْوةِ في أرض مكّة.. أمّا ابليسُ فهبَطَ في أخفَضِ نقطةٍ من اليابسة.. هَبَط في وادٍ مالحٍ في البصرةِ قريباً من مِياهِ الخليج.
وهكذا بَدَأت الحياةُ الإنسانيةُ فوقَ سطحِ الأرض، وبدأ الصِّراع.. الصِّراعُ بينَ الشيطانِ والإنسان..
عندما هَبَط أبونا آدمُ وأُمّنا حوّاءُ على سطحِ الأرضِ كانت هناكَ حيواناتٌ كثيرةٌ تعيش.. غيرَ أنها لم تُقاوِم الثلجَ المُتراكَم منذ آلافِ السنين، فماتَت وانقَرَضَت.. كانَ حيوانٌ يُدعى « المامُوث » وهو يُشبِهُ الفيلَ، ولكنّ جِلدَهُ كان مُغطّى بالصُّوف.
كان هذا الحيوان يَجُوب سِيبريا.. وكانَ حيوانٌ آخرُ يُشبه وحيدَ القَرن ولكنّه كان مُغطّى بالصّوف أيضاً.. هو الآخرُ لم يُقاوِمِ الثلوجَ والبَرد، فماتَت أنواعُه وانقَرَضَت..
وكانت هناك طيورٌ عجيبة.. طيورٌ عملاقة ماتَت ولم يَبقَ لها مِن أثر.
وشاء الله سبحانه أن تذوبَ الثلوجُ وينتهي البردُ الشديدُ في الأرض ويعودَ الدفءُ شيئاً فشيئاً.
وشاء الله أن يَهبِطَ آدمُ وحوّاءُ ليكونَ الإنسانُ خليفةً في الأرض.. يَزرَعُ ويَبْني ويُعمّرُ هذا الكوكبَ الجميل.

اللقاء
الملائكةُ كانت تُحبُّ آدم.. تُحبّه لأنّ الله خلَقَه بيده.. وتُحبّه لأنّه خَلَقه وجَعَله أسمى مرتبةً من الملائكة..
الملائكةُ سَجَدت لآدم، لأنّ الله أمرَها بالسُّجود له..
وعندما عصى آدمُ ربَّه وأكلَ من تلك الشجرة.. نَدِمَ وتابَ وأنابَ إلى الله..
اللهُ ربّنا رحيم، قَبِلَ تَوبتَه.. وأهبطَه إلى الأرض ليكونَ خليفتَه..
الأرضُ امتحانٌ للإنسان: هل يَعبُدُ الله أم يَتَّبِعُ الشيطان ؟
الملائكةُ تُحبّ آدمَ وتُحبّ له الخيرَ والسعادة..
تُريد له أن يَعودَ إلى الجنّة، أمّا الشيطانُ فهو يَكرَهُ آدمَ. وهو يَكرَهُ الإنسانَ ويَحقِدُ عليه، لهذا حَسَدَهُ ولم يَسجُدْ له.. استَكبَر على الله..
لهذا أغوى آدمَ وأزلَّه فأكَلَ من الشجرة..
الشيطانُ يكره الإنسانَ، يُضمِرُ له العداوةَ، يُريدُ له الشَّقاء.. يُريدُ له الذَّهابَ إلى الجَحيم.
هَبَط آدمُ على الأرض.. وظَّلَ ساجداً للهِ. كانَ يَشعُرُ بالنَّدِم العميقِ لخطيئته.. تابَ اللهُ عليه.. واجتَباه.. وأصبَحَ آدمُ طاهراً من الخَطيئة..
تَذكّر آدمُ زوجتَهُ حوّاءَ.. آدمُ يُحبّها كثيراً.
كانَ سعيداً بها، ولكنْ لا يَدري أينَ هي الآن.. عليه أن يَبحَثَ لَعلّه يَعثَرُ عليها.
راحَ آدمُ يَضرِبُ في الأرضِ وَحيداً يَبحَثُ عن زوجتهِ حوّاء.
جاء أحدُ الملائكة.. أخبَرَهُ أن حوّاء في مكانٍ بعيد من هذه الأرض.. إنها تَنتظرُك.. هي خائفةٌ وتَبحثُ عنك.. قال له: إذا سِرتَ في هذا الاتّجاه فإنك سَتَعثرُ عليها..
شَعَر آدمُ بالأمل.. وانطَلَق يَبحثُ عن حوّاء.. قطَعَ مسافاتٍ شاسعةً وهو يَمشي..
كان يَمشي حافيَ القَدَمين.
إذا جاعَ تناولَ شيئاً من النباتاتِ البرّية، وعندما تَغيب الشمسُ ويَغمُر الظلامُ الأرضَ؛ كانَ يَشعْر بالوَحشةِ فينام في مكانٍ مناسب.. وكان يَسمع أصواتَ الحيواناتِ تأتي من بعيد..
سارَ آدمُ أيّاماً ولياليَ.. إلى أن وصَلَ إلى أرضِ « مكّة »؛ في قلبهِ شعورٌ أنه سيجدُ حوّاء في هذا المكان.. ربّما خَلفَ هذا الجبلِ أو ذاك..
كانت حوّاءُ تَنتظر، تَصعَدُ هذا الجبلَ وتنَظُر في الآفاق.. ولكنْ لا شيء.. وتَذهَبُ إلى ذلك الجبلِ وتَصعَدهُ لِتَنظُر..
ذاتَ يومٍ رأت حوّاءُ وهي تَنظُر.. رأت شَبَحاً قادِماً مِن بَعيد.. عَرَفت أنّه آدمُ. إنّه يُشبهها.. هَبَطت حوّاءُ من الجبل.. رَكضَت إليه، كانت تَشعُر بالفَرحةِ والأمل..
آدمُ لَمَحها من بعيد.. أسرَعَ إليها، رَكض باتّجاهِ حوّاءَ. وحوّاءُ هي الأخرى كانت تَركضُ باتّجاه آدم.
وفي ظِلال جَبَلٍ يُدعى « عَرَفات » حَدَث اللقاء.. بَكَت حوّاء مِن فَرحَتِها، وبكى آدمُ أيضاً.. ونَظَرا جميعاً إلى السماءِ الصافية.. وشكرا الله سبحانه الذي جَمَع شَمْلَهُما مرّةً أخرى.

العَمَلُ والحياة
لم تكن الحياة في الأرض سهلة. إنّها ليست مِثلَ الجنّة..
الأرضُ كوكبٌ يَدورُ في الفضاء.. تَتَغيّر فيه الفصول.. شتاءٌ باردٌ حيثُ تَنهمِرُ الثُّلوجُ فتُغطّي السُّهولَ والجِبال..
وصيفٌ لاهِبٌ حارٌّ.. وخريفٌ تَتَساقطُ فيه الأوراق.. وتُصبِحُ الأشجارُ مِثلَ الأعوادِ الجافّة..
ثمّ يأتي الربيعُ.. فَتبتَهِجُ الأرض، وتَغْدو خَضراء.. ويَتَذكّرُ آدمُ حياةَ الجنّةِ الطيبّة فيَبكي.. يَحِنُّ للعَودةِ إلى الجنّة وإلى الحياة الطيّبة هناك.
اختارَ آدمُ وزوجتُه بقُعةً جميلةً من الأرضِ، لِيَعيشا فيها.
كانت بعضُ النباتاتِ البرّيّةِ قد نَبَتَت فيها، وأشجارٌ مختلفةُ الشكلِ والثَّمَر..
مَضَت أيامُ السعادةِ في الجنّة.. حَيثُ لا حَرٌّ ولا بَردٌ ولا جُوعٌ ولا تَعَب.
عليهما الآنَ أن يَكِدّا ويَعمَلا.. عليهما أن يَستَعدّا للشتاءِ القادمِ والرياحِ الباردة.. أن يناما في الغارِ قبلَ أن يَنتَهيا من بناءِ كوخٍ لهما مِن خَشَب الأشجار.
كانَ آدمُ يعملُ ويعملُ ويَشْقى.. كانَ يَتصَبّبُ عَرَقاً كلَّ يومٍ وهو يعمل.
فحتّى لا يَموتا جُوعاً، علَيهما أن يَزرعا ويَحصِدا ويَطَحنا ويَعجِنا ثُمّ يَخبزا لَهُما رَغيفَين.
كانا يَتذكّرانِ أيامَ السعادةِ ويَحنّانِ للعودةِ إلى الجنّةِ قُربَ اللهِ الذي خَلَقَهُما.
وكانا يَتذكّرانِ خَطيئتَهُما فيَبكيانِ ويَستَغفران.
وهكذا مَضَت حياتُهما بينَ العملِ والعبادةِ وبينَ التفكير في مُستقبلِ أولادِهما.
وتَمضي الأيامُ تِلْوَ الأيامِ.. وانجَبَت حوّاءُ وَلَداً وبِنتاً.. ثُمّ أنجَبَت وَلَداً وبِنتاً.
أصبَحَ عددُ سكّانِ الأرضِ من البشرِ سِتّةَ أفراد.
فَرِحَ آدمُ وحوّاءُ بأبنائهِما، كانُوا يَكبُرونَ يوماً بعدَ يوم.. أصبحوا شُبّاناً.. قابيلُ وأخوهُ هابيلُ كانا يَذهبانِ مع أبيهما آدمَ يتعلّمانِ منه العملَ؛ حِراثَةَ الأرضِ ورَعيَ الماشية..
أمّا اقليما ولوزا فكانَتا تُساعِدانِ أُمّهُما في أعمالِ المنزل.. الطَّبخِ.. الكَنسِ.. الحِياكة.
الحياةُ تتطلّبُ العملَ والنشاطَ والسعيَ.. وتَمُرّ الأيامُ والأعوام..

قابيل وهابيل
نَشأ قابيلُ قاسياً شَرِسَ الأخلاقِ عَنيفَ الطِّباع، بعكسِ هابيلَ الهادئِ الوَديعِ المُسالِم.
كانَ قابيلُ يُؤذي أخاهُ دائماً.. يُريدُ منه أن يُصبِحَ لَهُ عَبداً يَخدِمهُ من الصباحِ إلى المساء..
يَحرِثُ له الأرضَ، إضافةً إلى عملهِ في رَعيِ الماشية.. حتى يَنصرِفَ هو إلى كَسَلهِ وإمضاءِ وقتِه في اللهوِ واللعبِ. كم ضَرَبَ قابيلُ أخاه!!
وكانَ هابيلُ يتَحمّلُ ويَصبِرُ؛ لأنّ قابيلَ أخوه وشقيقُه..
كانَ يَدعو الله أن يَهدي أخاهُ قابيلَ ويُصبِحَ إنساناً طَيّباً.
كانَ آدمُ يتألّم.. وربّما نَصَحَ ابنَه قابيلَ ألاّ يكونَ شِرِّيراً.. قالَ له مرّةً:
ـ كُن طيِّباً يا قابيلُ.. مِثلَ أخيك..
ومرّةً قال له:
ـ لا تَكُن شرِّيراً يا قابيلُ.. إن اللهَ لا يُحبّ الأشرار.
كانَ قابيلُ لا يَسَمعُ نَصائحَ والدِه.. كانَ يَظُنُّ أنّه أفضلُ من هابيل.. فهو أقوى بكثيرٍ من أخيه.. عَضَلاتُه قوّيةٌ جدّاً، ورأسُه أكبَرُ من رأسِ هابيلَ.. وأطولُ منه قَدّاً..
وكانَ آدمُ يقولُ لابنهِ:
ـ إنّ التَّقيَّ هو الأفضَل.. أن اللهَ ينظرُ إلى القلوبِ يا قابيل.. الإنسانُ الأفضلُ.. هو الإنسانُ الأتقى.
كانَ قابيلُ عَنيداً.. كانَ يَصرُخ:
ـ لا.. لا.. لا أنا أفضلُ منه.. أنا الأقوى.. والأضخَم.
ذاتَ يومٍ صَفَعَ قابيلُ أخاهُ هابيلَ.. صفَعَهُ بقَسوةٍ.
لَمَ يَفعَلْ هابيلُ شيئاً. كانَ يتَحمّلُ أخاه.. هابيلُ قلبُه طيّبٌ يُحبّ أخاه.. يَعرِفُ أنّه جاهل.. هابيلُ يخافُ الله.. لا يُريد أن يكونَ شرِّيراً مِثلَ أخيه.
أرادَ الأبُ أن يَضَعَ حدّاً لشرورِ قابيل.. أرادَ أن يُفهِمَهُ أن اللهَ يُحبّ الطيِّبين.. إنّ الله لا يُحبّ الاشرار، قال لهما:
ـ لِيُقدّمْ كلٌّ مِنكُما قُرباناً إلى الله.. فمَن يَتقَبَّلُ اللهُ قُربانَهُ فهو الأفضَل.. لأنّ الله يَتقبّلُ مِن المتَّقين.
إنطلَقَ قابيلُ إلى حُقولِ القَمح.. جَمَعَ كُوماً مِن السَّنابِلِ كانت ما تَزال طَريّةً لَم تَنضجْ بَعد..
ومضى هابيلُ إلى قَطيعِ الماشية.. فاختارَ كَبشاً سليماً مِن كلِّ عَيب.. اختارَ كبشاً جميلاً وسَميناً.. لأنّه سيُهديهِ إلى الربّ..
قالَ آدمُ لابنَيه:
ـ إذهَبا إلى هذهِ التِّلال..
وَضَعَ قابيلُ كومَ القمحِ تحتَ إبطهِ، ومضى إلى التِّلال.
وراحَ هابيلُ يَسُوقَ كَبشَهُ الجميلَ إلى هناك.. تَرَكَ هابيلُ كبشَهُ فوقَ التلّ، وألقى قابيلُ كومَ القمحِ قريباً منه.. سَجَدَ هابيلُ لله.. بكى خشيةً منه.. نَظَرَ إلى السماءِ الصافيةِ ودعا اللهَ أن يَتقبّلَ قُربانَه.
أمّا قابيلُ فكانَ عَصبيّاً جدّاً.. يَنظُر هنا وهناك كأنّهُ يَبحَث.. كانَ يُريدُ أن يَرى الله.. تُرى ماذا سيكون شَكلُه ؟!
مَضَت ساعاتٌ طويلة.. لم يَحدُثْ شيء..
هابيلُ جالسٌ بِوَداعةٍ يَنظُر إلى السماءِ وقد ظَهَرَت بعضُ الغُيوم.. امتَلأت السماءُ بالسُّحُب.. سَكَنَ الهواء. كان هابيلُ يَدعو اللهَ.. وكانَ قابيلُ يُمسِكُ بصَخرةٍ ويَقذِفُها بعصبيّةٍ فتَتَكسّرُ فوقَ الصُّخور.. كانَ عَصبيّاً لا يَدري ماذا يفعل..
فجأةً لَمَعَ البَرقُ في السماء.. ودَوّى الرَّعدُ.. شَعَرَ قابيلُ بالخَوف.. أمّا هابيلُ فكانَ يَدعو الله. انهَمَرَ المطرُ.. غَسَلَ وجهَ هابيلَ.. غَسَلَ دُموعَهُ.. اختَبأ قابيلُ تحتَ سِنّ صَخريّ..
لَمَع البرقُ مرّةً أخرى وأخرى.. فجأةً انقَضَّتْ صاعقةٌ كالأعصار.. أصابَت الكَبشَ وحَمَلَتُه بعيداً. ابتهَجَ قلبُ هابيل.. بكى فَرَحاً.. لقد تُقبِّل قُربانُه.. إنّ الله يُحِبُّ هابيلَ لأنّ هابيلَ يُحِبُّ الله..
أمّا قابيلُ فقد امتلأ قلبُه بالحِقِد والحَسَدِ.. لم يَتَحمّلْ مَنظرَ كومِ القمحِ وقد بَعثَرتهُ الرِّيحُ.. أمسَكَ بحجرٍ صَخريٍّ وصَرَخَ بأخيه:
ـ لأقتُلَنَّك..!
قالَ هابيلُ بهدوء:
ـ يا قابيلُ يا أخي.. إنّما يَتقَبّلُ اللهُ مِن المتَّقين.
صَرَخَ قابيلُ مرّةً أخرى وهو يُلوِّحُ بِقَبضَتهِ:
ـ سأقتُلُك.. إنّني أكرَهُك!
شَعَر هابيلُ بالحزنِ.. لماذا يَكرَههُ أخوه ؟! ماذا فَعلَ لكي يَحقِدَ عليه ؟!
قالَ بمرارةٍ وألم:
ـ لَئن بَسَطتَ إلَيّ يَدَكَ لَتقتُلَني ما أنا بِباسِطٍ يَديَ إليكَ لأِقتُلَك.. إنّي أخافُ اللهَ ربَّ العالَمين..
انتَ تَظلِمُني يا قابيلُ.. وإذا ما قَتَلتَني فسوفَ يكونُ مَصيرُك النارَ.
قابيلُ يُفكّرُ بطريقةٍ وحشيّة.. فما دام هو الأقوى فمِن حقِّه أن يُسيطرَ على أخيه.. أن يَستَعبِدَه.. أن يُسَخِّرَهُ كما يُسخِّرُ الحيواناتِ الأُخرى..
انصَرَفَ هابيلُ إلى عَمَلِه يَرعى ماشِيَتَه.. نَسِيَ تهديداتِ أخيه.. كانَ يَرعى الماشيةَ في التِّلالِ والوِديانِ الخضراءِ الفَسيحةِ، يَتأمّلُ ما حوله بِحُبّ..
يملأ الإيمانُ قلبَه بالسلام.. ينظرُ إلى خِرافهِ وهي تَرعى في المُروج..
كلُّ شيء هادئ.. منَظرُ الشمسِ في الأصيلِ جميلٌ.. الأُفقُ الازرقُ الصافي.. وخَريرُ الجَدولِ وهو يَجري في الوادي الفَسيح.. والطيورُ البيضاءُ وهي تُحلّقُ في الفضاء الأزرق.. كلُّ شيءٍ جميل.. ومَحبوب..وهناك خَلفَ التِّلال كانَ قابيلُ يُسرِع نحوَ أرضِه.. كان عصبيّاً، وزادَ مِن عصبيّتهِ أنه كانَ جائعاً.. رأى مِن بعيدٍ أرنباً فركضَ فطارَدَه.. قَذَفهُ بحجرٍ، تَعثّرَ الأرنبُ.. انكسَرَت رِجلُه.. لَم يَعُد قادراً على الفِرارِ والنَّجاة..
أمسكَ قابيلُ به.. قَتَلَهُ.. وأكَلَه.. رمى بالباقي فوقَ الأرض..
هَبَطَت بعضُ النُّسورِ وراحَت تَتناولُ من الفَريسةِ.. قابيلُ فكّر في نفسِه.. لو كان ضَعيفاً.. لأكَلَتهُ النُّسور.. لماذا لا تأكُلني هذه الطيورُ المُخيفة.. لأنني قويّ.. القويُّ هو الذي يَستحقُّ الحياة.. وعلى الضُّعفاءِ أن يموتوا!
مرّةً أخرى فكّر قابيل بطريقةٍ وحشيّة.. إنّه لا يَعرِفُ الحقَّ والباطلَ، أن يكون الإنسان طيّباً أفضلُ من أن يكون شرّيراً. مرّة أخرى شَعَر بالحِقِد والحَسَدِ لأخيه.. تركَ أرضَهُ وحُقولَهُ ومضى نحو التِّلال..
راحَ ينظُر إلى أخيه هابيلَ في السُّفوحِ الخضراء.. والماشيةُ ترعى بسلام..
كانَ هابيلُ مُستَلقياً فوقَ العُشبِ الأخضر.. ربّما كانَ نائماً.. هكذا خَطَر في بالِ قابيلَ. اشتَعَل الحِقدُ في نفسِه أكثَر.. اشتَعلَ الغَدرُ في قلبِه.. انحنى ليَلتَقِط حَجَراً مُسَنَّناً.
ربّما فَكَّر أنّها فرصةٌ لِقَتلِ هابيل.. لِلتخلّصِ من أخيهِ إلى الأبد.
انحدَرَ قابيلُ من التلّ.. اقتَربَ من أخيه.. كانَ حَذِرا جدّاً مثلَ نَمرٍ شَرِس.. عَيناهُ تَبرقانِ بالجَريمةِ والغَدر..
كانَ هابيلُ غافياً.. شَعَر بالتّعبِ من كثرةِ ما دار في المراعي.. لهذا وَضَع رأسَه على صخرةٍ مَلساء وتَمدّدَ فوقَ العشُب ونام.. في وجههِ ابتسامةٌ وأمل..
كانَ نومُه هادئاً؛ لأنه يعرفُ أن هذا الوادي لا تَرتادُه الذِّئابُ ولا الخنازير، لهذا تَرَك ماشيتَه ترعى بسلام.
لم يَخطرْ في بالهِ أنّ هُناك مَخلوقاً آخرَ أكثرَ فَتْكاً من الذئاب..
قابيلُ شقيقُه الوحيدُ في هذه الدنيا الواسعة!
أصبحَ قابيلُ قريباً منه.. وَقَع ظِلَّهُ على وجهِ أخيهِ النائم.. فَتَحَ هابيلُ عَينَيهِ، ابتسَمَ لأخيه.. ولكنّ قابيلَ كانَ قد تَحوّل إلى وحش.. أصبَح مِثلَ الذئبِ، بل أكثرَ قَسوَة..
انقَضَّ على أخيه بالحَجَرِ وضَرَب جَبهتَه.. سالَت الدماءُ على عينَي هابيل.. فَقَدَ وَعيَه.. وكانَ قابيلُ يُواصِلُ الضَّرب.. إلى أن سَكَنَت حركةُ هابيلَ تماماً.
لَم يَعُد هابيلُ يتحرّك.. لَم يَعُد يَفتَحُ عَينَيه الواسعتين.. لم يَعُد يتَحدّث ولا يَبتسم.. إنه لا يَستطيعُ العَودةَ إلى كوخِه.. بَقِيَت ماشيتُه دونَ راعٍ.. سَتَتيه في هذه التلالِ والوِديانِ.. سَتفترسُها الذئاب..
كانَ قابيلُ يَنظرُ إلى أخيه.. وكانَت الدِّماءُ ما تزالُ تَنزِفُ من جبهِته.
تَوقّفَ نَزفُ الدم.. ظَهَرت في السماء نُسورٌ راحت تَحُوم..
حارَ قابيلُ ماذا يَفعل ؟.. حَمَلَ جَسدَ أخيهِ وراحَ يَمشي.. لا يَدري أين يَذهَبُ بهِ، كيف يُبعِده عن هذه النُّسورِ الجائعة ؟!
شَعَر بالتَّعب.. الشمسُ تَجنَحُ نحوَ الغُروب.. وضَعَ جسدَ أخيه فوق الأرض.. وجلسَ ليستريح..
فجأةً حَطّ غُرابٌ بالقربِ منه.. كانَ يَنعَبُ بشدّةٍ يصيحُ: غاق.. غاق.. غاق.. ربّما كان يقول له: ماذا فَعَلتَ بأخيكَ يا قابيل ؟! لماذا قَتَلتَ أخاك يا قابيل ؟!
راحَ قابيلُ يُراقبُ حركاتِ الغُراب.. الغُرابُ كانَ يَبحثُ في الأرض.. يَنبشُ التراب.. صَنَع فيها حفرةً صغيرة.. التقَطَ بمنقارهِ ثمرةً من الثمارِ الجافّة وألقاها في الحفرة.. راحَ يُهيلُ عليها التراب..
شَعَر قابيلُ بأنه اكتَشَف شيئاً مهمّاً.. عرَفَ كيف يُواري أخاه.. يَحفَظُه من النُّسور والذئاب.. أمسكَ بعظمٍ ربّما كان فَكَّ حمارٍ ميّتٍ أو حصانٍ أو حيوانٍ آخر.
راحَ يَحفرُ في الأرض.. كانَ يَتصبّبُ عَرَقاً، صَنَع حُفرةً مناسبة.. لا يُمكنُ للنسورِ ولا للحيوانات أن تَنبشَها. حَملَ جسدَ أخيه ووضعَهُ في الحفرةِ، وراح يُهيلُ عليه التراب..
بكى قابيلُ كثيراً.. بكى لأنّه قتَلَ أخاه.. وبكى لأنه كان عاجزاً عن فعلِ شيء..
الغرابُ هو الذي علّمه كيف يُواري سَوْءةَ أخيه..
إنّه مخلوقٌ جاهلٌ لا يعرفُ شيئاً.. يتعلّمُ من الغُراب! نَظَر قابيلُ إلى كفَّيه، نفَضَ منهما التراب. ماذا فعلتَ بنفسكَ يا قابيل ؟!
كيف طَوَّعَت لكَ نفسُك قَتْلَ أخيك.. ماذا كَسَبت ؟! ماذا حَصَدتَ من عملِك سوى النَّدم والألم ؟! غابت الشمس.. خَيَّم المساء.. وملأ الظلامُ الوادي، وعاد قابيلُ إلى كوخه..
مِن بعيدٍ وقبل أن يَصِل إلى الكوخِ رأى ناراً.. ناراً متأجّجة.. خافَ قابيلُ.. أصبحَ يخشى النار.. النارَ التي أخذَتْ قُربانَ أخيه ورَفَضَت قُربانَه.. أراد أن يَفِرّ.. ولكن إلى أين ؟
رأى أباهُ آدمَ ينتظرُ.. كانَ ينَتظرُ عودةَ ابنَيه.. عادَ قابيلُ وحيداً..
شَعَر آدم بالحُزنِ والقلقِ.. سألَ ابنَه:
ـ أينَ أخوك يا قابيل ؟
قال قابيلُ بعصبيّة:
ـ وهل أرسلتَني راعياً لابنِك ؟!
أدرك الأبُ أن شيئاً ما قد حَصَل.
قالَ لقابيل:
ـ أين فَقَدتَه ؟
قالَ قابيلُ:
ـ هناكَ في تلك التلال.
قال الأب:
ـ خُذْني إلى ذلك المكان.
قابيلُ أشار إلى المكان.. وراحَ يَمشي وأبوه يمشي وراءه.. سَمِعا من بعيدٍ ثُغاءَ الأغنامِ والماعزِ، ورأى آدمُ الماشيةَ مُبعثرَةً في الوادي.. صاح:
ـ هابيل.. أين أنتَ يا هابيل ؟!
لكنّ أحداً لم يُجِب.. تَحت ضوء القمرِ رأى آدمُ شيئاً يَلمَعُ فوقَ الصخور.. فوقَ الأرض.. شمَّ رائحةً غريبة.. أدرك آدمُ كلَّ شيء.. عرفَ أن قابيلَ قد قَتلَ أخاه، هتَفَ بغضب:
ـ اللعنةُ عليك يا قابيل.. لماذا قتلتَ أخاك ؟! لم يَخلُقْكَ اللهُ لِتُفسِدَ في الأرضِ وتَسفِكَ الدماء.. اللعنةُ عليك..
فَرّ قابيلُ.. تاهَ في الأرض.. راحَ يَعدو مثلَ المجنون.. ينامُ في المَغارات، يَركَعُ للنار.. يَسجُد لها. أصبَحَ يخافُ منها.. أصبَحَت حياتُه عذاباً وندماً.
وعادَ آدمُ إلى الكوخ حزيناً يبكي من أجل ابنهِ هابيل.. هابيل الطيّب التقيّ.. هابيل المظلوم..
بكى آدمُ أربعينَ يوماً.. وبَكَت حوّاءُ من أجل وَلَدَيها.. وأوحى الله إلى آدم أنه سَيَرزقُه وَلداً آخر.. ولداً طيّباً مثل هابيل.. ومَضَت تسعةُ أشهر.. وأنجَبَت حوّاءُ ولداً جَميلاً وجهُه يُضيء كالقمر..
فَرِحَ آدمُ.. ملأت البهجةُ قلبَه.. لقد عَوّضه الله عن هابيلَ بولدٍ مثلِه.. سبعةُ أيام وآدمُ يفكّر في اسمٍ لولده.. وفي اليومِ السابع قال لزوجته:
ـ نُسمّيه شيث.. هبةَ الله.. لأن الله قد أهداه لنا..
وتمضي الأيامُ والأعوام.. وكَبُر شيث، وأصبحَ آدمُ شيخاً كبيراً.. وأصبحت حوّاء إمرأةً عجوزاً..
وكان آدمُ راضياً.. لقد كَبرَ ابناؤه وأصبح له أحفادٌ وذرّية.. يَعملونَ ويَزرعونَ.. ويَبنونَ.. ويَعبُدونَ الله.. وهناك في مكانٍ ما يعيشُ قابيل.. هو الآخَرُ أصبحَ له ذرّيةٌ في الأرض.
وذاتَ يومٍ قال آدمُ لولده شيث:
ـ أشتَهي عِنَباً يا ولدي..
نَهضَ شيث وانطلَقَ إلى البساتينِ الواسعةِ حيث تَنبُتُ الكُروم.. اقتَطَفَ بعضَ العناقيدِ الناضجةِ وعادَ إلى أبيه.. ولكنّ آدمَ قد تُوفّي.. عادَ إلى الجنّة.. بعد أن عاشَ في الأرض ألفَ سنة..